
في عصر يتكاثر فيه الإنتاج الموسيقي الرقمي بتسارع مهول، ويُعبأ الصوت في صيغ تيسّر الاستهلاك السريع، اختار عازف الساكسفون الأميركي جيمس براندون لويس (James Brandon Lewis) أن يدير ظهره لما هو سائد، وأن يلتفت إلى المهمل والمنسي.
ألبومه السادس عشر الذي يحمل عنوان Apple Cores أو "لب التفاحة"، لا يسعى إلى التجديد بمفهومه السطحي، ولا يهدف إلى الإبهار اللحظي، لكنّه عودة إلى البُنى القديمة، واللحظات غير المكتملة، وتلك الذخيرة الصوتية التي لم تعد جزءاً من الذوق العام أو الاقتصاد الموسيقي المعاصر.
الألبوم ليس استعادة تعزّزها النوستالجيا، بل تمرين على التنقيب الصوتي، يفتش عن جوهر الجاز وأبعاده الاجتماعية، من خلال ما أُقصي وهُمّش، وليس ما يُعاد إنتاجه. العنوان جاء محمّلاً بالدلالات: لبّ التفاحة، استعارة واضحة لتلك المساحات الموسيقية والروحية التي بقيت من الجاز، ومن الحركات الثقافية السوداء، ومن الذاكرة الجمعية لجماعات قاومت بالقرب من الآلات وبعيداً عن أضواء الشهرة. لكن لويس لا يعزف النوستالجيا، بل يصوغ بياناً موسيقياً متقشفاً، بلا خطابة، حول العلاقة بين الارتجال والجماعة، بين الذاكرة والهوية، بين ما نسمعه ومن نصحبه بعد الاستماع.
لم يأتِ الألبوم باعتباره عملاً متقن الحبك. كان مقصوداً أن يبدو وكأنه يتكوّن أمام الجمهور. معظم مقطوعاته ارتُجلت بالكامل في جلستَين مباشرتَين، من دون مونتاج لاحق، ومن دون هيكلية كلاسيكية. هذا وحده كافٍ ليعيد النظر في طبيعة الصوت المسجّل: هل هو غنائي أو توثيقي؟ اللافت فيه ليس الارتجال بحد ذاته، بل الكيفية التي يُبنى بها. الثلاثي، جيمس براندون لويس على الساكسفون، وتشاد تايلور على الدرامز، وجيمس فاريلي على الباص... لا "يجربون" بل "يتشاركون". لا يتصدر أحدهم، بل تستمع كل آلة إلى الأخرى، ترد، تقاطع، تتراجع، وتتقدم.
في مقطوعة مثل Five Spots to Carava، يمكن للسامع أن يتوه في خيوط متداخلة من الضربات والتنفسات والجمل الجزئية. لكنّ هذا التيه ليس عبثياً؛ بل هو أشبه بجولة في حي قديم: كل صوت ينقل إلى زاوية، كل تكرار يلمّح إلى ما هو آتٍ من دون أن يفصح تماماً. الجاز هنا لا يُقدَّم باعتباره عرضاً فردياً، بل ممارسة جماعية تنتج المعنى من التفاوض الصوتي. لويس لا يقدم ارتجالاً حراً بالمفهوم العشوائي، بل حرية ضمن شروط الجماعة، ضمن الإصغاء المتبادل. إنه يُمارس ما يمكن تسميته "العدالة الصوتية": لكل آلة حيّزها، ولكل صوت حق في أن يُسمع من دون أن يُهيمن.
لم يكن اختيار جيمس براندون لويس لعنوان الألبوم Apple Cores اختياراً عابراً، فالعنوان يحيل إلى عمود نقدي شهير كتبه أميري باراكا في مجلة Down Beat خلال الستينيات، وهي فترة كان فيها الجاز يُنظر إليه باعتباره أداة للتعبير السياسي والاجتماعي، وامتداداً لحركات الوعي الأسود، ليس مجرد نوع موسيقي.
يحمل الألبوم بأكمله طابع حوار غير مباشر مع باراكا، من خلال إشارات وعناوين تفتح على سياقات ثقافية وتاريخية، فمقطوعات مثل Remember Brooklyn & Moki وPrince Eugene تشير إلى أماكن وأشخاص لعبوا دوراً في تاريخ الجاز التجريبي. موكي، مثلًا، زوجة دون تشيري، كانت فنانة بصرية وروحية ساهمت في بناء الأجواء التي نشأت حول موسيقى ما بعد جون كولترين، إذ يتداخل الصوت مع الذاكرة، والفن البصري، والشعر، والمواقف السياسية.
لا يسعى الألبوم إلى تقديس هذه الشخصيات، بل يعيدها إلى "اللبّ": باعتبارها أصواتاً قابلة للاستحضار، للنقد، للامتداد. ويمكن اعتبار Apple Cores نصاً موازياً لكتابات إميري باراكا، لا يُقرأ بالحروف، بل بالنبرات، بالطبقات، وبالصمت بين الأصوات. وهو يعيد طرح سؤالٍ عميق: من يكتب التاريخ الموسيقي؟ ومن يبقيه حياً؟ أهو الناقد؟ أم المستمع؟ أم العازف الذي يصرّ على الربط بين الماضي والحاضر من دون وساطة؟
رغم أن Apple Cores يسير على خطى روحية قديمة، إلّا أنه ليس غارقاً في الماضي، بل يتوجّه، ضمناً، إلى جيل جديد لا يعرف تاريخ الجاز بتفاصيله، لكنه يبحث عن صوت صادق، عن عبارات لا تُصمَّم خصيصاً للمنصات. هنا تظهر مفارقة لافتة: الألبوم صدر عن شركة Anti- المستقلة، لكنّه متاح على كل المنصات الرقمية. الصوت "العضوي"، الحي، المُرتجَل، يُوزّع عبر آليات مضادة له؛ خوارزميات تصنّف وتقترح وتُحوّل الصوت إلى مزاج.
هل يمكن لصوت مثل جيمس براندون لويس أن ينجو من التسطيح الخوارزمي؟ ربما لا. لكن الألبوم لا يخضع إلى ذلك، بل يقاوم من الداخل: كل مقطوعة طويلة نسبياً، بلا لحن سهل الحفظ، بلا كورس، صوت يتحدى المستمع، ويطالبه بالجهد، تماماً كما تتطلب العدالة الاجتماعية جهداً لفهمها وممارستها. هذا يقود إلى سؤال ضروري: ما معنى الاستماع العادل اليوم؟ وهل نستمع بوصفنا أفراداً أم طبقات؟ هل يختلف سمع الفقير عن الغني؟ ابن المدينة عن ابن الريف؟ الأسود عن الأبيض؟ الألبوم لا يجيب، لكنه ينبّه إلى أن كل صوت يُسمع، وكل صوت يُنتج، يحمل معه بنية طبقية.
في مقطوعتي Prince Eugene وOf Mind and Feeling، لا يحتل الساكسفون دائماً المقدمة، بل ينسحب أحياناً ليفسح المجال للإيقاع أو للباس كي يتولّيا قيادة الجملة الموسيقية. هذا التوزيع غير النمطي للأدوار يعكس رؤية مختلفة عند جيمس براندون لويس: فالصوت ليس مجرد أداة تعبير، بل فضاء تتحرك فيه الآلات بحرية، وتتفاعل مع بعضها بتبادل الأدوار بدلاً من التراتبية المعتادة. الآلات لا تُعامل هنا على أنها مجرد أدوات تنفيذ، بل تُمنح حضوراً مستقلاً.
الطبول، مثلاً، ليست خلفية للإيقاع بل صوت يحمل طابعاً شعائرياً، والساكسفون لا يعلو بالصراخ بل يبني جمله بتأنٍ، كما لو كان يستعيد طريقة النطق من جديد. أما الباس، فيؤسّس للّحن عبر طبقة أرضية ثابتة، تذكّر بالنبرة الأساسية التي ينطلق منها العمل. فالجموع التي يتحدث عنها ليست الجماهير، بل الأصوات المنسية. والطبقات ليست سُلَّم النوتات فحسب، بل البنى الاجتماعية التي تحدّد من يملك حق العزف، ومن يملك وقتاً كافياً للاستماع. Apple Cores ليس ألبوماً فحسب، بل اقتراح لمستقبل الصوت: صوت أكثر عدالة، أكثر بطئاً، أكثر صدقاً.
في كثير من النقاشات حول الجاز، يُفهم الارتجال على أنه حرية فنية، أو مساحة للعازف يعبّر خلالها عن نفسه. لكن لويس يدفع المستمع إلى إعادة النظر في هذه الحرية. ما يقدمه ليس ارتجالاً للإبهار، بل ارتجال يرفض الطاعة، ويقاوم الخضوع والانسياق.. لا للَّحن، ولا لذوق المنتج، ولا لتوقع الجمهور.
المقاطع المتشظية أو المتقاطعة بلا مركز لحني لا تعبّر عن خلل، بل عن رفض بنية السلطة الموسيقية التقليدية: قائد–تابع، سؤال–جواب، بداية–نهاية. الارتجال هنا يشبه ما يسميه النقاد "الحرية داخل القيد": حرية تُنتَج داخل نظام ثقافي يقيّد الصوت الأسود في قوالب تجارية أو فولكلورية سطحية. ولهذا؛ فإنّ كل تردد غير متوقّع، كل خروج عن المركز، هو مقاومة صامتة، لا تصرخ، لكنها لا تسكت.
وهذه المقاومة لا تُمارس بالصوت فحسب، بل أيضاً بطريقة توزيع المساحة بين الآلات. لا أحد يهيمن، لا أحد يخضع. الطبول ليست خلفية، الساكسفون ليس نجماً، والباس لا يربط بل يقترح. هذه المساواة في التوزيع ليست تجريباً شكلياً، بل إعادة بناء للعلاقات داخل الجماعة: من الفرد القائد إلى المجموعة المتفاوضة، من المركز إلى التعدّد.
قد لا يغيّر Apple Cores خريطة الجاز كما نعرفها، لكنه يوسّع تخوم الاستماع ذاته، ليس لأنه يقدّم جديداً بالمعنى التقني، بل لأنه يذكّر بأن الإصغاءَ نفسه فعل سياسي، وأن الموسيقى ليست بالضرورة ما يُقال فيها، بل ما تفتحه من إمكانات في جمهورها. جيمس براندون لويس لا يعرض نفسه مُخلّصاً، ولا مرجعاً، اختار أن يلعب دور الجسر بين مَن رحلوا من دون أن يُسمعوا، ومن يأتون ولا يجدون ما يُقال لهم.
بهذا المعنى، فإنّ الألبوم لم يعد مجرد عمل فني، بل لحظة من لحظات التذكّر القادرة على الصمود وسط النسيان. إنّه ألبوم ضد المحو، ضد التنميط، ضد السرعة. ألبوم لا يدّعي النقاء، بل يحتفي بالتشويش حين يكون صادقاً، وبالاضطراب حين يكون إنسانياً. وحين يصمت لويس في النهاية، لا يكون قد أنهى مقطوعته، بل ترك فراغاً في جمهوره، وكأنه يقول لمحبيه: املأوا أنتم الفراغ بما تختارون، فربما كان الجاز، في جوهره، ليس ما تسمعون فحسب، بل ما تتغيرون بسببه بعد ذلك.
ولد جيمس براندون لويس في نيويورك عام 1983، وعبر آلة الساكسافون أصبح واحداً من أبرز الأصوات الجديدة في الجاز المعاصر. يجمع في موسيقاه بين الارتجال الحر، والتقاليد الروحية للجاز، والانشغال بالسياق الثقافي والسياسي للسود في أميركا.
لا يقدّم الجاز باعتباره نوعاً موسيقياً فحسب، بل وسيلة للتفكير في الهوية والعدالة والذاكرة. بصوته القوي والمتحرّر، وألبوماته المتتابعة منذ العقد الماضي، رسّخ مكانته واحداً من أبرز فناني الجاز الذين يربطون الموسيقى بالفعل النقدي والموقف الأخلاقي.

Related News
