
تسود الوثائقي "مع حسن في غزة" (2025)، للفلسطيني كمال الجعفري، نبرة عميقة وهادئة، رغم ما يحمله من إحالات تشير إلى وضع راهن في القطاع، يعجز العالم عن وصفه. تتجلّى فيه بساطة التصوير وعفويته، والبعد عن الاشتغال السينمائي المُعقّد، والميل إلى البطء والغموض، وكثرة توظيف المونتاج، وبعض التجريب الشكلي. لذا، يبتعد "مع حسن في غزة" عن سمات فنية بارزة وكثيرة في سينما كمال الجعفري، الذي يعتمد، ربما بسبب طبيعة المادة المُصوّرة نفسها، بناءً خطياً سلساً، وتصاعداً زمنياً، واستدعاء لكلاسيكية البناء والصورة إجمالاً.
صحيح أنّ الفيلم يقوم أساساً، من اللقطة الأولى إلى الأخيرة، على مادة أرشيفية، تُشكِّل عماد سينما كمال الجعفري أصلاً. لكنّ هذا القوام ليس مستمداً، في "مع حسن في غزة"، من مواد أرشيفية نادرة، أو من لقطات مأخوذة من أفلامٍ قديمة، أعاد المخرج توليفها أو توظيفها. فالفيلم يرتكز، في مدّته كلّها تقريباً (140 دقيقة) على أشرطة صَوّرها الجعفري بنفسه في زيارة له إلى قطاع غزة عام 2001.
عدم استخدام التسجيلات مُتعمّدٌ. يُطمئن الجعفري شاباً يخشى التصوير: "هذه المادة لوثائقيّ لن يرى النور إلا بعد سنوات طويلة جداً". حرب غزة دافع إلى اشتغاله على مادته المنسيّة. إنجاز وثيقة بالغة الأهمية، تشهد على ما كانت عليه غزة يوماً، بعيني الجعفري الذي زارها وصَوّرها لأول مرة، إذ تتناول أفلامه، عادة، أماكن وبلدات ومدناً أخرى، مثل يافا والرملة والقدس المحتلة، حيث ولد وعاش ودرس حتى المرحلة الثانوية.
يبدأ "مع حسن في غزة"، المشارك في المسابقة الرئيسية للدورة الـ78 (6 ـ 16 أغسطس/آب 2025) لمهرجان لوكارنو السينمائي، بلقطة متمهّلة لحاجز تفتيش. تمسح الكاميرا المنطقة الخاوية أمام الحاجز، قبل انطلاق سيارة أجرة على طريق وسط بيت لاهيا وبيت حانون، باتجاه وسط غزة. تدريجياً، مع اللقطات والمَشاهد المرصودة بكاميرا يدوية، نُدرك أنّنا إزاء فيلم طريق (Road Movie). تمتد الرحلة من شمال مدينة غزة، قبل محاصرتها، إلى جنوبها، على امتداد يوم كامل، ينتهي صباح اليوم التالي.
الرحلة المُشوّقة، قبل ربع قرن، دافعها الأساسي رغبة الجعفري في البحث عن صديقه الغزّي عبد الرحيم، الذي سُجن معه حين كان يبلغ 17 سنة، عام 1989. بخلاف الاسم، لا يعرف كمال عن عبد الرحيم أي شيء. ولأنّه في غزة لأول مرة، يعتمد على دليل غزي، اسمه حسن البوبو، مجهول المصير الآن هو وأسرته، كحال الصديق عبد الرحيم.
بصرف النظر عن العثور على الصديق، مجهول العنوان أصلاً، تحقّق غرض الرحلة؛ إذْ نقل الجعفري، بعين صادقة ومُخلصة، ومن دون أي افتعال، تفاصيل الحياة اليومية، والأوضاع المعيشية الكارثية في غزة، وما تعرّض له فلسطينيوها من عدوان واحتلال، واقتلاع للجذور، ومُصادرة للأرض، والتشريد في العراء والمخيمات، وغيرها من أهوال، جرّاء الانتفاضة الأولى. من هنا، يُمثّل الفيلم وثيقة بالغة القوة ودامغة على ما حدث ويحدث لشعب غزة، على مدى عقود، وكيف أنّ ما صار في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 نتيجة تراكمات وضغوط وكبت وحصار وتجويع، وكان طبيعياً وحتمياً أنْ يحدث يوماً.
التصوير المُتمعّن للمستوطنات المُقامة حديثاً، وأسيجتها وأسوارها المُطلّة على تخوم القرى الفلسطينية المُصادرة والمُدمّرة، والبنايات المُهدّمة عمداً، التي نراها بعد وصولهما إلى خانيونس، وتجوالهما وسط الخرائب والأنقاض، وتصوير الجعفري حياة الناس البائسة والمُهدَّدة في المخيمات، مُقارنة بفقر الحياة وحيويتها في غزة وشوارعها وأسواقها وشاطئها، كلّ هذا ينقل مدى التفاوت، بمختلف المستويات، حتى داخل غزة نفسها.
مشاهدة المادة الفيلمية الحيوية، الآتية من الماضي، مؤلمة جدّاً، ليس لطبيعتها الخاصة، بل لما تنطوي عليه من استدعاء قسري يُقارن الماضي بالحاضر.
تصوير تبادل إطلاق النار ليلاً، والمناوشات البعيدة بين سكان المخيم وحدود المستوطنات، الأقل ديناميكية في الفيلم. لكنّ حيويتها وإثارتها نابعتان من طبيعة التصوير نفسه. التناقض الناجم من إحساس الجعفري بالخطر، وطمأنة حسن له مراراً، وأن ما يحدث لا يُخيف ولا يؤذي، ومُعتاد، هذا يقود إلى لقطات أخرى عدّة، تعمّد المخرج تركها من دون تدخّل منه. حتى تلك التي تلتقط الأرض عرضاً، أو الناجمة عن اهتزاز الكاميرا. خيار فني أكّده أيضاً تعمُّدَه ترك شريط الصوت الحيوي كما هو، بكل ما فيه من أصوات، حتى المزعج منها.
ترك فيلم "مع حسن في غزة" من دون أي تعليق صوتي مُوفّق، مع الاكتفاء بسطور قليلة موجزة، أبرزها عن غرض الرحلة. في نهايته، يُسهب كمال الجعفري في الكتابة عن حياته وأهله، وعن غرض فيلمه، والمواد الأرشيفية وسجنه، وتفاصيل أخرى، يُفَضَّل لو أنّه أسقطها أو كثّفها، لأنّها لم تُضف جديداً. خيار فني مُثير للحيرة والغرابة، وأثقل الخاتمة بقراءة طويلة، بينما تجنّب أو أغفل ذكر اسم حسن بالكامل، وماهيته، وطبيعة علاقتهما، ولم ينجل أمر الاسم إلّا لاحقاً، بالتدقيق في القوائم الختامية.

Related News
