ليست أزمة المياه في جنوب الضفة الغربية، وتحديدًا في محافظتي الخليل وبيت لحم، مجرد خلل فني أو قصور في إدارة الهيئات المحلية. هذا العطش المتكرر، الذي يضرب المنطقة عامًا بعد عام، ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة لمعادلة استيطانية واحتلالية مركبة جرى ترسيخها عبر عقود من الزمن. إن محاولة اختزال المشكلة في قضية توزيع أو صيانة، كما تفعل بعض الخطابات، لا تخدم سوى إخفاء الجذور الحقيقية للأزمة، وتحويلها من قضية سيادية إلى مجرد مشكلة خدمية. هذا المقال لا يسعى إلى إدانة طرف بعينه داخل المجتمع الفلسطيني، بل إلى إعادة رسم الصورة الواضحة، ووضع النقاط على الحروف، لفهم كيف تحولت أزمة سياسية إلى معاناة يومية يعيشها المواطن الفلسطيني.
إن الواقع المائي في جنوب الضفة يتشكل بفعل ثلاثة أبعاد متداخلة. أولها، وأكثرها وضوحًا، هو الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر على أكثر من 85% من الموارد المائية في الأراضي الفلسطينية، ويحتكر توزيعها من خلال شركة ميكوروت الحكومية. ثانيًا، تأتي الاتفاقيات المرحلية، وعلى رأسها اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995 التي منحت الاحتلال حق الرفض على أي مشروع فلسطيني لتطوير مصادر المياه، وحولت العلاقة بين المحتل والمواطن إلى علاقة بين تاجر ومستهلك يتحكم في مصيره. أما البعد الثالث، فهو السرديات المحلية التي تتجاهل هذه الأبعاد السابقة، وتوجه اللوم إلى البلديات، ما يُعفي الاحتلال من مسؤوليته المباشرة.
إن ما يحدث في الجنوب الفلسطيني ليس مجرد سوء حظ أو ظاهرة طبيعية. إنه نتيجة حتمية لبنية احتلالية جرت هندستها وصياغتها بعناية. تسيطر إسرائيل على المياه الجوفية، وتتحكم في كميات الضخ، وتمنع الفلسطينيين من حفر آبار جديدة أو تطوير القائمة منها. وفي الوقت نفسه، تبيع لهم جزءًا من مياههم بأسعار مرتفعة. هذه المعادلة ليست اقتصادية فحسب، بل هي سياسية بامتياز. فالمياه هنا هي أداة للتحكم والسيطرة، وسلاح يهدف إلى إضعاف المجتمع الفلسطيني وإخضاعه. إن ما شاهدناه مؤخرًا في منطقة الباحة في بلدة الظاهرية، حيث عمدت قوات الاحتلال إلى صب الباطون في نبعات المياه، هو تجسيد لهذه السياسات. إنه ليس مجرد عمل تخريبي، بل هو محاولة واضحة لفرض السيطرة الكاملة على الموارد، وتدمير أي مصدر محتمل للسيادة الفلسطينية على مياهها.
الوعي المجتمعي الفلسطيني يشكل درعًا يحمي المجتمع من التشتت في قضايا فرعية، ويوجه بوصلة الغضب نحو السبب الرئيسي، رافضًا تحويل القضية السيادية إلى مشكلة إدارية
إن أخطر ما في هذه الأزمة هو محاولة تحويلها في الوعي العام من قضية سيادية إلى مشكلة إدارية. فالخطابات التي تختزل الأزمة في أخطاء موظف بلدية أو خلل في التوزيع هي فكرةٌ قاصرةٌ وفاقدةٌ بُعدَ النظر، وتتجاهل جوهر السياسة الاحتلالية الأعمق. لكن الشعب الفلسطيني، بفضل معاناته اليومية، يتمتع بوعي أعمق يجعله عصيًّا على الانخداع بمثل هذه الحجج. إنه يدرك تمامًا أن أزمة المياه ليست مجرد مشكلة فنية، بل هي انعكاس مباشر لأزمة سياسية. هذا الوعي المجتمعي هو ما يحفظ جوهر القضية الفلسطينية حيًّا في الوجدان، ويُشكّل درعًا يحمي المجتمع من التشتت في قضايا فرعية، ويوجه بوصلة الغضب نحو السبب الرئيسي. إن محاولة تصوير الأزمة شأنًا داخليًا هي محاولة يائسة لتفكيك هذا الوعي، إلا أن التجربة أثبتت أن الشعب يصر على ربط أزماته المعيشية بالإجراءات الممنهجة للاحتلال.
إن حل أزمة المياه في جنوب الضفة لا يمكن أن يقتصر على صيانة شبكة مياه أو زيادة عدد الصهاريج. هذه مجرد حلول مؤقتة، الحل الحقيقي يكمن في حلول شاملة تبدأ من إعادة الاعتبار لأبعاد المشكلة الثلاثة.
- أولاً، تجب إعادة التأكيد أن المياه هي حق سيادي فلسطيني لا يمكن التنازل عنه. هذا يتطلب استراتيجية وطنية واضحة لمواجهة السيطرة الإسرائيلية.
- ثانيًا، تجب مراجعة جذرية لاتفاقيات المياه الموقعة، ورفض أي أسس قانونية تمنح الاحتلال حق السيطرة على الموارد الفلسطينية. يجب أن يكون الهدف هو استعادة السيطرة الكاملة على المياه الجوفية والسطحية.
- ثالثًا، يجب تعزيز الوعي السياسي لدى المواطن، وتوجيه الخطاب العام نحو الجذور الحقيقية للمشكلة. يجب أن يفهم الجميع أن أزمة المياه ليست مشكلة خدمية، بل هي قضية سياسية.
إن هذا العطش الذي يعاني منه الجنوب الفلسطيني بشكل خاص هو في جوهره عطش للحرية والكرامة، ولن يرتوي إلا باستعادة السيادة على الأرض والموارد. ويدرك مجتمعنا جيدًا أن هذه المعاناة ليست إلا محاولة للعبث بوعيه وحرف بوصلته نحو خلافات داخلية، لكنه أسمى وأرقى من أن يقع في فخ هذه الخزعبلات. إن الوعي المتجذر لدى شعبنا يجعله متيقظًا لكل المحاولات التي تستغل حاجاته الأساسية من أجل تفكيكه، فهو يرى بوضوح أن أزمته الحقيقية تكمن في الاحتلال لا في أداء موظف هنا أو هناك.
Related News

