
أعادت استقالات متزامنة لعدد من الطبيبات الشابات في مصر ملف هجرة الأطباء الشبان إلى الواجهة، إذ تحدثت الطبيبات عن ظروف عمل غير آدمية، ومخالفات مهنية وإدارية، وعدم توفر سبل الرعاية الصحية.
فجّرت استقالات جماعية لطبيبات مقيمات بقسم أمراض النساء والتوليد في جامعة طنطا، مركز محافظة الغربية في وسط دلتا مصر، عاصفةً من الغضب، وكشفت عن أزمة صحية أعمق وأكثر تعقيداً. وتعد طنطا تاسع أكبر المدن في مصر حسب تعداد السكان، وثالث أكبر مدن الدلتا من حيث المساحة والسكان.
لم تكن الاستقالات مجرد احتجاج على ظروف عمل قاسية، بل كانت صرخة مدوية في وجه نظام صحي يئن تحت وطأة الإرهاق وسوء الإدارة، على أمل أن تصبح نقطة تحول في أزمة هجرة الأطباء التي تستنزف الكفاءات الطبية.
وكشفت شهادات الطبيبات عن واقع يعانيه الأطباء الشباب في المستشفيات الحكومية، ما دفع نقابة أطباء مصر إلى التحرك، وطرح الأزمة على الرأي العام، معيدةً طرح السؤال الأهم: لماذا يغادر الأطباء المصريون بلادهم؟
بدأت الأزمة بمنشورات مطوّلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شاركت فيها عدة طبيبات مقيمات في قسم أمراض النساء والتوليد بجامعة طنطا، تجاربهن اليومية القاسية مع ظروف العمل غير الآدمية.
كتبت الطبيبة رنين جبر، والتي كانت صاحبة الاستقالة الثامنة في دفعة تضم 15 طبيباً مقيماً، عن بيئة عمل وصفتها بأنها "استنزاف جسدي ونفسي"، وعن "غياب الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية". مضيفة: "عملت 11 شهراً في هذا المكان. 11 شهراً قصرت فيها في حق كل شيء في حياتي إلا العمل. قصرت في حق أهلي، وفي حق نفسي، وحق صحتي، وحق ربنا". وتكمل: "من أصل 15 طبيباً نائباً (مساعداً)، بقي سبعة فقط. في يوم من الأيام جمعونا، وقالوا لنا بالنص إن وجودكم ليس مرحباً به في القسم، وقدموا استقالاتكم. مبروك، خطتكم نجحت".
وقالت جبر إنها وزميلاتها كن يعملن مناوبَات تمتد إلى 72 ساعة متواصلة، من دون راحة أو نوم كافٍ، وإنها كانت تضطر للنوم على الأرض، أو على أسرّة المرضى، وأحياناً على مقعد، لعدم توفر مكان مناسب للنوم. وأضافت أن ظروف العمل المتوفرة في المستشفى لا تليق أبداً بالأطباء، وإنهم كانوا يُحرمون من أبسط حقوقهم، مثل النوم، ولم يكن يُسمح لهم بالتقدم للماجستير في الوقت المحدد أسوةً بزملائهم في الأقسام الأخرى. ملخصة تجربتها المريرة بأنها اختارت في النهاية الاستقالة كي "تستعيد كرامتها"، وتضع حداً لـ"استنزافها".
بدورها، استقالت الطبيبة هايدي هاني بعد تسعة أشهر من العمل الشاق، ووصفت صاحبة الاستقالة الثامنة في دفعتها هذه الفترة بأنها "أسوأ تجربة" مرت بها على الإطلاق، معتبرة أن توقيع الجامعة على استقالتها كان بمثابة "إفراج حقيقي"، وإن "نيابة الجامعة صعبة، أيّاً كان الذي ستحصده من تعليم. ليس من الذكاء استمرار الإنسان بالعمل في مكان منزوعة منه الإنسانية والاحترام".
وذكرت أنها منعت من التقديم للحصول على درجة الماجستير رغم أن "نيابة الجامعة" يفترض أن تكون فرصة للتطور الأكاديمي، وروت واقعة اضطرت فيها لمغادرة منزلها في الرابعة فجراً إلى المستشفى لرعاية مريضة من دون أن تكون الحالة طارئة، ما يكشف عن غياب المعايير المهنية والإدارية.
وركزت الطبيبة سارة مطاوع على غياب حقوق الإنسان الأساسية، مثل عدم وجود مكان للراحة، وعدم السماح للأطباء بتناول الطعام، وقالت إنهم كانوا يُصلّون سراً، ويأكلون متى انتهى العمل أو خلاله، وأن أي اعتراض أو إبداء رأي كان يواجه بـ"البانش"، وهو مصطلح يُستخدم في القسم لوصف العقاب الجماعي المرهق.
وكشفت شهادات الطبيبات الشابات عن نمط متكرر داخل العديد من أقسام النساء والتوليد في مستشفيات الجامعات المصرية، خصوصاً في المحافظات خارج العاصمة، حيث أعداد الأطباء النواب أقل.
يتحدث الطبيب عبد الله، والذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، لـ"العربي الجديد"، عن جانب آخر أكثر سوءاً وانتهاكاً للإنسانية، أجبره على تغيير تخصص عمله من طبيب نساء وتوليد إلى مسؤول جودة إدارة مستشفيات في واحد من المستشفيات الاستثمارية، بعدما اصطدم بمناخ العمل في قسم النساء والتوليد بأحد المستشفيات التابعة لجامعة القاهرة، حيث كان يعمل بصفة طبيب نائب.
يقول الطبيب الشاب إنه كان يحلم بالاستمرار في هيئة التدريس بكلية طب قصر العيني المرموقة، لكنه استقال بعدما فشل في التكيف مع أعباء النيابة، ومع مناخ العمل "غير الإنساني وغير الأخلاقي". ويحكي أنه "من المشهور في الأوساط الطبية أن أقسام النساء والتوليد تشهد بشكل عام بعض الانحرافات، وكثيراً ما يُصدم الأطباء الصغار في التكليف أو النيابة بالمصطلحات الخادشة للحياء والنكات البذيئة التي يطلقها أساتذة القسم وكبار الأطباء على سبيل المزاح، وبمشاركة بعض الممرضات القديمات في القسم".
يضيف: "كنا نضطر للاستماع إلى هذه الألفاظ الفجة وغير الأخلاقية أثناء وجودنا في غرف العمليات مع عدد من كبار الأطباء، ولم يكن أحد من أطباء النيابة أو التكليف يجرؤ على الاعتراض، أو حتى الامتعاض، لأنه يعرف العواقب المتمثلة في تعطيل تسجيل الماجستير، أو تحميله مسؤوليات إدارية، أو مناوبات طويلة. وخارج غرف العمليات هناك أعباء جسدية أخرى، منها ما تحدثت عنه الطبيبات المستقيلات، مثل ساعات العمل الطويلة المتواصلة. كنا نصل إلى مرحلة من الاحتراق الذهني والنفسي والجسدي، نفقد فيها أحياناً السيطرة على أنفسنا نتيجة قلة النوم وعدم الراحة والضغط العصبي، وكثيراً ما كان يُمارس هذا ضدنا بشكل مُتعمد".
ويقر الطبيب الشاب بأن "كل ما حكته الطبيبات المستقيلات من مستشفى جامعة طنطا هو واقع ملموس في أغلب المستشفيات المصرية، خاصة الواقعة في المحافظات الريفية. الإيجابي في الأمر هو ما أثارته شهادات الطبيبات من ردات فعل واسعة".
وبحسب وسائل إعلام محلية، عقد رئيس جامعة طنطا محمد حسين اجتماعاً طارئاً مع وفد من الطبيبات، ووعد بإجراءات تصحيحية، كما أعلنت الجامعة تشكيل لجنة عاجلة لبحث الأزمة. وفي محاولة لتهدئة الأوضاع، أكد عميد كلية الطب بالجامعة أحمد غنيم العمل على تقليل ساعات المناوبات وتحسين ظروف العمل، إضافة إلى نقل وحدة النساء إلى مستشفى تعليمي جديد لتوفير بيئة أفضل.
من جهتها، أعربت نقابة الأطباء المصرية في بيان عن قلقها البالغ، وأعلنت تواصلها مع إدارة الجامعة والمطالبة بفتح تحقيق عاجل. كما أكدت النقابة أن "توفير بيئة تدريب إنسانية ومحترمة هي ركيزة أساسية لإصلاح المنظومة الصحية، ورغم أن الوعود تبدو إيجابية، إلا أنها ليست كافية لطمأنة الجميع".
وتبقى الاستقالات، وإن عدلت عنها بعض الطبيبات، مجرد حجر صغير في المياه الراكدة الخاصة بأزمة هجرة الأطباء المصريين على مدار السنوات الماضية، والتي تعد أحد التحديات الخطيرة التي تواجه القطاع الصحي، وأدى تفاقمها إلى مخاوف بشأن مستقبل الرعاية الصحية في البلاد.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن أعداد الأطباء المصريين المهاجرين في تزايد مستمر، ففي عام 2022 استقال 4621 طبيباً من القطاع الحكومي. ووفقاً لتقارير صحافية، هاجر نحو 7000 طبيب شاب خلال عام 2024، وتشير تقديرات نقابة الأطباء إلى أن نحو 120 ألف طبيب مصري يعملون حالياً خارج البلاد، وشهدت هجرة الأطباء إلى بريطانيا، على سبيل المثال، ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة تزيد على 200% بين عامي 2017 و2021.
وتكشف هذه الأرقام عن فجوة كبيرة في أعداد الأطباء مقارنةً بالمعدلات العالمية، فبينما توصي منظمة الصحة العالمية بـ22 طبيباً لكل عشرة آلاف نسمة، يبلغ المعدل في مصر تسعة أطباء فقط لكل عشرة آلاف نسمة.
وتتنوع وجهات الأطباء المصريين المهاجرين بين الدول العربية، خاصةً دول الخليج، والدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. وطبقاً لرؤية نقابة أطباء مصر، تتعدد الأسباب التي تدفع الأطباء إلى الاستقالة والهجرة، ومن أبرزها تدني الأجور، وبيئة العمل الصعبة، وغياب التقدير الاجتماعي، والاعتداءات، ونقص فرص التدريب، ونقص الكوادر الطبية، وتدهور جودة الرعاية الصحية، وإهدار الكفاءات.

Related News


