
أعلن وزير المالية النرويجي، ينس ستولتنبرغ، اليوم الجمعة، أن صندوق الثروة السيادي للبلاد، الذي تبلغ قيمته تريليوني دولار، سيكشف الأسبوع المقبل عن تغييرات في أسلوب تعامله مع الاستثمارات المرتبطة بإسرائيل، مستبعدًا في الوقت ذاته أي انسحاب شامل من هذه الاستثمارات، رغم تصاعد الضغوط المرتبطة بالحرب في قطاع غزة، وفقاً لـ"رويترز".
وقال ستولتنبرغ، خلال مؤتمر صحافي عقده عقب اجتماع ثانٍ خلال ثلاثة أيام مع مسؤولي الصندوق: "أرى أن هناك عدة إجراءات يمكن اتخاذها مع مرور الوقت، لكن ما يمكن التعامل معه بسرعة يجب أن يتم سريعًا". ويأتي هذا التحرك في أعقاب إعلان الحكومة، يوم الثلاثاء الماضي، عن إطلاق مراجعة عاجلة لاستثمارات الصندوق السيادي، في ظل تصاعد المخاوف الأخلاقية المتعلقة بالحرب الدائرة في غزة، والاحتلال الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية.
ورغم أن الوزير لم يفصح عن طبيعة الإجراءات المرتقبة التي ستتخذها الحكومة أو الصندوق، لكنه شدد على أن الانسحاب الكامل من جميع الشركات الإسرائيلية غير مطروح، موضحًا: "لو فعلنا ذلك، فسيعني أننا نسحب الاستثمارات فقط لأنها إسرائيلية، وهذا ليس التوجه الذي نعتمده".
بين ضغط الشارع وأخلاقيات الاستثمار
منذ تأسيسه، التزم صندوق الثروة السيادي النرويجي بتوجيهات أخلاقية صارمة تُشرف عليها لجنة مستقلة، تُعرف بـ"مجلس الأخلاقيات"، وتقوم بتقييم الشركات المدرجة في محفظته الاستثمارية استنادًا إلى مدى امتثالها لمعايير حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، ومبادئ الحوكمة الرشيدة. وقد سبق للصندوق أن سحب استثماراته من شركات لأسباب تتعلق بانتهاكات في ميانمار، وتورط في صناعة الأسلحة النووية، أو انتهاك حقوق العمال.
إلا أن الحالة الإسرائيلية تبدو أكثر تعقيدًا. فإسرائيل، من وجهة نظر بعض مسؤولي الصندوق، ليست مجرد ساحة صراع مسلح، بل هي دولة تملك اقتصادًا متنوعًا ومتقدمًا، ويشمل شركات ناشطة عالميًا في قطاعات التكنولوجيا والدواء والدفاع والطاقة، وهو ما يجعل عملية التصفية الشاملة محفوفة بتبعات اقتصادية كبيرة، بل وقد تخلق سابقة قد تمتد لاحقًا إلى دول أخرى.
الحكومة تحت المجهر: انتقادات من الداخل والخارج
التحرك الأخير للحكومة النرويجية لم يأتِ بمعزل عن السياق الدولي؛ إذ تتزايد دعوات المقاطعة الاقتصادية عالميًا ضد الشركات الداعمة للاحتلال أو المستفيدة من النزاع. كما أن منظمات حقوقية نرويجية ودولية كثفت ضغوطها في الأشهر الأخيرة على الحكومة، مطالبة إياها بموقف حازم، لا سيما أن النرويج تروّج لنفسها دولة راعية للسلام والوساطة في النزاعات. وقال ستولتنبرغ في مؤتمره الصحافي: "أرى أن هناك إجراءات متعددة يمكن اتخاذها مع الوقت، لكن ما يمكن تنفيذه بسرعة يجب أن يُعالج فورًا"، ما يعكس إدراك الحكومة لحساسية اللحظة وضغوط الرأي العام، دون المجازفة باتخاذ قرارات قد تضر بمصالح الصندوق أو تشوبها تهمة التسييس.
إسرائيل في ميزان الأخلاق والسياسة والاقتصاد
الصراع في غزة، وما يتخلله من مشاهد الدمار والمجازر بحق المدنيين، فتح مجددًا باب النقاش في أوروبا حول مسؤولية رؤوس الأموال الغربية في تغذية النزاعات أو التواطؤ الصامت مع أنظمة متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة. لكن في حالة إسرائيل، فإن التعقيد السياسي حاضر بقوة، إذ تخشى الحكومات الغربية أن يؤدي فرض عقوبات اقتصادية أو سحب استثمارات إلى تهم بمعاداة السامية أو تقويض العلاقات الاستراتيجية. ويبدو أن الموقف النرويجي الحالي يسير على خط رفيع بين اتخاذ خطوات "تُرضي الضمير الأخلاقي" المحلي والدولي من جهة، والحفاظ على مصالح الدولة الاقتصادية والدبلوماسية من جهة أخرى.
ما المتوقع من الصندوق؟
رغم عدم الكشف عن تفاصيل التغييرات المرتقبة، تشير الترجيحات إلى احتمال اعتماد آليات أكثر دقة في التصفية، مثل، استبعاد شركات محددة متورطة في أنشطة غير قانونية أو ذات طابع عسكري مباشر في الأراضي المحتلة؛ تجميد الاستثمارات الجديدة في شركات إسرائيلية حتى انتهاء المراجعة الأخلاقية؛ ومراجعة معايير الشفافية والتورط غير المباشر، لا سيما في القطاعات التي قد تكون مرتبطة بمشاريع استيطانية أو تستخدم تقنيات للمراقبة في الضفة الغربية. وقد يفتح القرار الباب أيضًا أمام تعزيز الشراكات مع منظمات حقوق الإنسان لتقديم تقارير دورية حول الشركات العاملة في بيئات نزاع.
حسابات العوائد والمخاطر
على الرغم من الطابع الأخلاقي للمراجعة النرويجية، فإن الأبعاد الاقتصادية تشكّل عاملًا جوهريًا في توجّه الحكومة. فصندوق الثروة السيادي لا يُعد فقط أداة أخلاقية، بل يمثل العمود الفقري لاقتصاد الدولة، ويغذي جزءًا مهمًا من موازنتها العامة. انسحاب شامل من شركات إسرائيلية قد يؤدي إلى خسائر محتملة في قطاعات ذات عوائد مرتفعة مثل التكنولوجيا والأمن السيبراني والدواء، وتعريض المحفظة لمخاطر التركز الجغرافي وفقدان تنويع مهم.
كما أن أي قرار يُتخذ من الصندوق، باعتباره أحد أبرز المستثمرين عالميًا، يبعث برسائل حاسمة للأسواق الدولية، وقد يشجع صناديق سيادية أخرى أو مستثمرين مؤسساتيين على إعادة تقييم انكشافهم على إسرائيل. وفي حال تصاعد الانتهاكات أو ورود تقارير دامغة عن تورط شركات محددة في جرائم حرب، فقد تصبح النرويج مضطرة لاتخاذ خطوات إضافية، ما سيؤدي إلى آثار اقتصادية تمتد أبعد من حدود الصندوق نفسه.
اختبار لمصداقية السياسات الأخلاقية
يمثل هذا الملف اختبارًا حقيقيًا لصندوق الثروة السيادي النرويجي، ليس فقط باعتباره مؤسسة مالية ضخمة، بل مؤسسة تدّعي ريادة عالمية في الاستثمار الأخلاقي والمسؤول. فالموازنة بين القيم والمصالح لم تعد أمرًا نظريًا، بل باتت على المحك في وجه وقائع دامغة وكلفة إنسانية لا يمكن تجاهلها. في الأيام المقبلة، سيكون على النرويج أن تقدم نموذجًا يُحتذى به، أو أن تواجه تساؤلات صعبة حول ازدواجية المعايير بين المبادئ التي تعلنها والممارسات التي تنتهجها.

Related News


