"ماء السبيل" ومراوح وبرادات.. مبادرات إنسانية لمواجهة الحر في العراق
Arab
3 hours ago
share

مع ارتفاع درجات الحرارة في العراق والتي تجاوزت في بعض المناطق 50 درجة مئوية، تشهد الشوارع والساحات مبادرات إنسانية فردية تنبض بالرحمة والمسؤولية المجتمعية، في محاولة لتخفيف وطأة الحر الشديد على المارة. وبات هذا التقليد السنوي جزءًا من مشهد الصيف العراقي؛ إذ يبادر مواطنون إلى وضع برادات الماء الفخارية أو البلاستيكية على الأرصفة، إلى جانب تركيب مراوح كهربائية تنبعث منها رذاذات الماء البارد، في تنافس لافت على تقديم سبل التخفيف من حرارة الجو.

برّادات لمياه الشرب

في حي الكرادة ببغداد، تنتشر عدة برّادات لمياه الشرب، وضعتها نور الراوي على مدار السنوات الخمس الماضية، قرب مواقع تشهد كثافة في حركة المارة، خصوصا خلال ساعات الذروة. نور التي تدير صالون تجميل نسائي صغيرا، تروي لـ"العربي الجديد" أنها كثيراً ما كانت تسمع كلمات الشكر والثناء والدعاء من الناس الذين يروون عطشهم بشرب المياه من برادها، وذلك حين بادرت بنصب أول براد ماء في عام 2010.

تقول: "في السنوات التالية ضاعفت عدد البرادات، ووزعتها في مناطق مختلفة قرب محل عملي، لكي أتمكن من الإشراف عليها من حين لآخر". وتضيف: "عندما بدأت هذه المبادرة، لم أتخيل أن تحظى بكل هذا الاهتمام. كثيرون يمرون مرهقين، لا يجدون ماءً يروي عطشهم، وأشعر أن من واجبي أن أساعدهم ولو بالقليل". وتتابع "كل يوم، أحضر معي عبوات مياه ومكعبات ثلج كبيرة أشتريها من السوق القريب، وأملأ بها البرادات، كما أحرص على تنظيفها باستمرار".

"ماء السبيل".. إرواء وحسنات

"ماء السبيل" ظاهرة قديمة توارثها العراقيون عبر الأجيال؛ إذ ما إن يحلّ الصيف حتى يبادر بعض الأشخاص إلى وضع "زير ماء" أمام منازلهم أو قرب الأسواق وعلى طرق المارة، ليروي عطش العابرين. و"زير الماء" هو إناء فخاري كان يُستخدم قديما داخل المنازل العراقية لتنقية المياه وتبريدها، قبل دخول الكهرباء وانتشار أجهزة التبريد الحديثة.

رغم بلوغه السبعين عاما، لا يزال الحاج قاسم عباس يواظب كل صيف على وضع "زير ماء" أمام منزله، وآخر عند الطريق المؤدي إلى سوق شعبي يشهد حركة كثيفة للمارة يوميا. يقول الحاج قاسم: "اعتدت على هذا منذ أكثر من خمسين عاما، وأفضّل الزير الفخاري لما له من رمزية تراثية، ولقدرته على تبريد الماء طبيعيًا، بدلا من استخدام البرادات الحديثة".

ويضيف: "الأمر لا يقتصر على إرواء العطش فقط، بل هو فعل إنساني يمنحني شعورا عميقا بالسعادة. أخصص جزءا من مصروفي اليومي لشراء الثلج والماء، وأحرص على تنظيف الزير يوميا والتأكد من توفر كؤوس بلاستيكية نظيفة، ويشاركني حفيدي في هذا العمل البسيط". ويشير إلى أن الزير بات يشكّل نقطة استراحة صغيرة للمارة، حيث يتبادل الناس أطراف الحديث تحت حر الشمس، ويجدون بعض الراحة بفضل رشفة ماء باردة.

مراوح للتبريد

في أسواق بغداد التجارية المزدحمة، مثل الشورجة والكرادة والباب الشرقي، بدأت منذ سنوات تظهر مبادرات فردية لتبريد أجسام المارة، من خلال وضع مراوح عمودية تنفث رذاذ الماء. حيدر العبودي، صاحب محل لبيع الإكسسوارات، كان من بين المبادرين، إذ وضع "مرشة ماء" أمام محله لتلطيف الجو وتخفيف وطأة الحر عن المارة.

يقول حيدر العبودي لـ"العربي الجديد" إنه بدأ منذ ثلاثة أعوام بوضع مرشة ماء أمام محله الواقع في منطقة تعجّ بالمارة والمتسوقين. ويضيف: "شاهدت عمالاً وبعض المارة يرشّون أنفسهم بماء من زجاجات بلاستيكية صغيرة، في محاولة يائسة لتخفيف حرارة الجو، فقررت تركيب مرشة ماء متصلة بخزان عند باب المحل لأساعد الناس وأوفر لهم بعض الراحة".
ويضيف: "وضعت مرشحة (مروحة مزودة برذاذ ماء)، وبدأ الناس يستخدمونها. فرحتي كبيرة وأنا أنفع الآخرين، هم أيضاً يوجهون لي الشكر ويدعون لي بالخير وذلك يسعدني جداً".

بدوره وضع رياض الدايني مروحتين كبيرتين أمام محله في وسط سوق تجاري، تنفثان رذاذ ماء بارد لتلطيف الأجواء. يقول لـ"العربي الجديد": "أعرف جيداً كيف يشعر المارّون، فهم يعملون أو يتجولون لساعات تحت لهيب الشمس، ووجدت أن هذه الطريقة البسيطة يمكنها أن تقدم لهم استراحة صغيرة، يستعيدون فيها قوتهم".

ويضيف: "يرتاد كثيرون هذه المنطقة يومياً للتبضع، وأشاهد كيف يقفون أمام المراوح. أحياناً لأكثر من خمس دقائق، يغمضون عيونهم وكأنهم يجدون ملجأً من الحرارة". ويتابع: "أؤمن أن المشاركة حتى بأبسط الأشياء تخلق أجواء إنسانية في المجتمع. الهواء مع الرذاذ يخفف التعب، وأنا أرى في ذلك جزءاً من واجبي تجاه الناس".

عمق إنساني وامتنان مجتمعي

بدورهم يجد العراقيون في هذه المبادرات لمسات إنسانية نبيلة، ويؤكدون أنها تجسّد ما تدعو إليه الشريعة الإسلامية ومختلف الشرائع من فعل الخير، لما فيه من نفع يعود على فاعله والمجتمع معًا.
ومع ارتفاع درجات الحرارة، يزداد خطر الإصابة بضربات الشمس والإغماء، خصوصاً بين العمال والمارة الذين لا يجدون مأوى بارداً. رقيّة ثامر، طالبة جامعية، تقول لـ"العربي الجديد": "في إحدى المرات تعرضت لضربة شمس وأغمي علي، وبرادة الماء على الطريق أنقذتني"، وأضافت: "منذ ذلك الوقت تغيرت نظرتي لهذه المبادرات. وأشعر بامتنان كبير لمن يفكرون في الآخرين رغم صعوبات الحياة".

أما عامل التوصيل سامر علاوي، فتربطه علاقة وثيقة مع هذه المبادرات التي يصفها بأنها "منقذتي أثناء أدائي لعملي في الشوارع"، ويقول لـ"العربي الجديد": "أعمل لساعات طويلة، والحر ينهكني، لكن عندما أجد ماءً بارداً أو مرشة ماء على الطريق، أشعر كأنني أُعطيت فرصة لاستكمال يومي. هذه المبادرات ليست فقط تروي عطشي، بل ترفع معنوياتي".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows