
في ظل تصاعد التقلبات التجارية العالمية والرسوم الجمركية الأميركية، شهدت الصناعة الألمانية أسوأ تراجع لها منذ ما يقرب من عام، ما يثير مخاوف متزايدة من انكماش الاقتصاد الأوروبي الأكبر في الربع الثاني من عام 2025. وبينما تبدو الصناعة أمام تحديات جمّة بفعل السياسات التجارية الجديدة، ثمة بوادر تعافٍ محتملة عبر استراتيجيات الاستثمار الحكومي والخاص، لكن الطريق لا يزال محفوفاً بالمخاطر وسط بيئة عالمية متقلبة تفرض على أكبر اقتصاد أوروبي أن يعيد رسم خريطته الاقتصادية والتجارية.
ففي تقرير حديث صادر عن مكتب الإحصاءات الألماني "ديستاتيس"، برز انخفاض بنسبة 1.9% في الإنتاج الصناعي لشهر يونيو/حزيران المنصرم، مقارنة بالشهر السابق، متجاوزاً التوقعات الاقتصادية بشكل كبير. وعزا خبراء بلومبيرغ هذا الانخفاض بشكل خاص إلى تراجع إنتاج القطاعات الحيوية مثل الآلات والمعدات والمنتجات الصيدلانية والمواد الغذائية، وذلك بضغط من الرسوم الأميركية من جهة وعناصر تراكمية سبقتها من جهة أُخرى.
ومع تعديل قراءة مايو لتظهر انكماشاً طفيفاً، بلغ الانخفاض الكلي في الإنتاج الصناعي خلال الربع الثاني 1%، ما قد يرفع تقديرات انكماش الاقتصاد الألماني من 0.1% إلى 0.2% وفقاً لتوقعات نقلتها بلومبيرغ عن كبير الاقتصاديين في بنك "برينبيرغ" هولغر شميتدينغ الذي شدد على أن هذا التراجع يمثل "انتكاسة كبيرة" وأن "التقرير يعكس تكلفة التراكمات التي سبقت فرض الرسوم الأميركية"، معتبراً أن هذه النتائج تعكس حالة "الدفع المستحق" بعد فترة من التحوط والتخزين في انتظار السياسات التجارية الجديدة.
ولا يقتصر الأمر على الأرقام فقط، فالأزمة بدأت تتجسّد عملياً في أكبر الشركات الألمانية التي تعتمد على التصدير. فقد خفضت علامات السيارات الشهيرة، مثل "بورشه" و"أودي"، توقعاتها المالية، فيما تواجه شركات أُخرى تحديات متزايدة في سلاسل التوريد، ما قد يعوّق النمو الاقتصادي في المستقبل القريب. ووفقاً لتقرير صادر عن "بلومبيرغ إيكونوميكس"، فإن الآفاق القريبة ستظل قاتمة مع استمرار السياسة التجارية الأميركية في الضغط على قطاع الصناعة الذي يعاني بالفعل.
كما أظهرت بيانات منفصلة انخفاضاً غير متوقع في طلبات المصانع لشهر يونيو، مع ضعف واضح في الطلب من خارج منطقة اليورو، ما يبعد احتمال حدوث تعافٍ سريع. وفي ضوء هذه التحديات، قللت شركة "ميرك كيه جي إيه إيه" (KGaA) الألمانية المتخصصة في التكنولوجيا والعلوم توقعاتها لنمو المبيعات السنوي، متأثرة بتراجع الدولار الأميركي وضعف قطاع الإلكترونيات. ومن جهته، يرى البنك المركزي الألماني (بوندسبنك) أن الاقتصاد الألماني يظل على حاله هذا العام بعد سنوات من الركود الممتد، حيث يقول رئيس قسم الاقتصاد الكلي في بنك "آي إن جي" (ING) كارستن بريزسكي: "بدلاً من التعافي الدوري، لا تزال الصناعة الألمانية عالقة في مرحلة القاع، ولم تتمكن بعد من تجاوز تداعيات الرسوم الأميركية".
لكن رغم التشاؤم، تظهر بعض المؤشرات الإيجابية في الأفق. فقد ارتفع مستوى الثقة في خطط الاستثمار لبعض الشركات الألمانية الكبرى، مع توقعات بزيادة كبيرة في الإنفاق العام على البنية التحتية والدفاع، ما قد يدعم النمو الاقتصادي على المدى الطويل. ويتوقع الاقتصاديون أن يشهد الاقتصاد الألماني توسعاً بنسبة 1.1% في عام 2026، يتسارع إلى 1.6% بحلول عام 2027. وفي سياق متصل، أظهرت بيانات حديثة تراجع العجز التجاري الألماني إلى 14.9 مليار يورو (حوالي 17.4 مليار دولار)، مدفوعاً بارتفاع حاد في الواردات، وهو أقل عجز خلال ثمانية أشهر، ما يعكس تغيّراً في ديناميكية التجارة الخارجية.
وتُعتبر صناعة السيارات أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الألماني، حيث تُوظّف أكثر من 800 ألف شخص بشكل مباشر، وتوفر ملايين الوظائف الإضافية عبر سلاسل التوريد والخدمات المرتبطة بها. وتساهم هذه الصناعة بنحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي الألماني، وتمثل ما يقرب من 15% من إجمالي الصادرات الصناعية. وتضم ألمانيا بعض أكبر شركات السيارات في العالم مثل فولكسفاغن، ومرسيدس-بنز، وبي إم دبليو، وأودي، وبورشه، كما تحتضن عدداً هائلاً من الموردين المتخصصين في تصنيع المكونات الدقيقة.

Related News
