
في خطوة قد تُعيد تشكيل موازين التجارة العالمية، وتضع الاقتصاد العالمي أمام اختبار جديد بالغ التعقيد، دخلت الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيّز التنفيذ فجر الخميس، وسط قلق متزايد في وول ستريت ومؤشرات تباطؤ اقتصادي تلوح في الأفق، بينما تتّسم مواقف شركاء واشنطن التجاريين، حلفاء وخصوما، إما بالرضوخ أو برسوم مضادة انتقامية، على أمل الوصول إلى تسويات معقولة تكفي الاقتصاد العالمي المرهق "شرّ القتال"، لا سيما أن العديد من الخبراء يرسمون سيناريوات تشاؤمية على ضوء تجارب سابقة عزّزت فيها زيادات الرسوم الحمائية "الكساد الكبير"، مع ما صاحبه من ارتفاع هائل في البطالة، وانخفاض حاد في الإنتاج الصناعي والتجاري، وانتشار تداعياته في معظم دول العالم.
واللافت أن فترة "الكساد الكبير" (The Great Depression) كانت من أكبر الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، وقد ساهمت في تغيير السياسات الاقتصادية، وأدت إلى توسّع دور الدولة في إدارة الاقتصاد، بخاصة في الولايات المتحدة عبر "الصفقة الجديدة" التي انتهجها الرئيس فرانكلن روزفلت، بحسب تقرير لمجلة "ذا أتلانتيك" (The Atlantic) عام 2023، علماً أن روزفلت حكم الولايات المتحدة بين عامَي 1933 و1945، وهو الرئيس الوحيد الذي انتُخب لأربع ولايات، وقاد ما يُسمّى "الصفقة الجديدة" (New Deal) التي كانت عبارة عن سلسلة برامج وإصلاحات اقتصادية أطلقها لمواجهة آثار الكساد الكبير، وهدفت إلى إنعاش الاقتصاد وخفض البطالة وتنظيم الأسواق المالية والنظام المصرفي، وشكّلت بداية لدور أكبر للدولة في الاقتصاد الأميركي.
وبموجب إجراءات ترامب الجديدة، ارتفع متوسط الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة إلى 15.2%، مقارنة مع 2.3% فقط في العام الماضي، وهو أعلى مستوى لها منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب تقديرات خدمة "بلومبيرغ إيكونوميكس". وقد وقّع ترامب مرسوم تطبيق الزيادات قبل أسبوع، لكن تنفيذها تأخر لإتاحة الوقت أمام سلطات الجمارك الأميركية لتعديل آليات التحصيل.
وتأتي هذه التطورات بعد شهور من التهديدات المتضاربة والمفاوضات المتقلبة التي شهدت قبول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية برسم 15% على صادراتها، ولا سيما السيارات، تفادياً لرسم أكبر يصل إلى 25%. أما دول أخرى، كالهند وسويسرا، فقد فشلت في انتزاع استثناءات، إذ ضاعف ترامب الرسوم على منتجات الهند إلى 50% بسبب شرائها النفط الروسي، بينما غادر الرئيس السويسري واشنطن خالي الوفاض دون خفض رسم بلاده البالغ 39%. في غضون ذلك، تُدار مفاوضات موازية مع المكسيك وكندا والصين بشأن رسوم أُخرى، فيما تعهّد ترامب بالكشف قريباً عن حزمة رسوم جديدة على قطاعات حساسة مثل الأدوية وأشباه الموصلات. ويرى مراقبون، بحسب بلومبيرغ، أن هذه الإجراءات قد تكون جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة التوازن إلى الميزان التجاري الأميركي ودفع الشركات لإعادة التصنيع إلى الداخل.
لكن هذه الوعود تواجه انتقادات حادة، إذ يحذّر خبراء من أن ارتفاع الرسوم قد يؤدي إلى تضخّم ونقص في السلع، في وقت أظهرت فيه بيانات يوليو/تموز أسوأ تعديل سلبي في نمو الوظائف منذ جائحة كورونا. كما سجّل النمو الاقتصادي تباطؤاً في النصف الأول من العام، فيما بدأت بعض الشركات تخفض استثماراتها تحسّباً لكلفة الاستيراد المرتفعة. وتشير دراسة صادرة عن "معهد بيترسون" (Peterson Institute for International Economics) عن العلاقة بين الرسوم والنمو الاقتصادي في يونيو/حزيران الفائت، إلى أن الرسوم الجمركية ترفع الكلفة على المستهلك وتخفض فرص العمل على المدى الطويل، رغم نيات الحماية الاقتصادية.
مكاسب مالية من الرسوم الجمركية ولكن...
في هذه الأثناء، يواجه ترامب تحديات قانونية حول استخدامه لصلاحيات الطوارئ لفرض رسوم على أساس دولة المنشأ، بينما يحاول التحوّل إلى أسس قانونية أكثر متانة لتبرير الرسوم على قطاعات محددة. ويُشكك خبراء قانونيون، كأستاذ القانون في جامعة ديوك، تيم ماير، في مدى قابلية تنفيذ هذه السياسات على المدى الطويل، وفقاً لما نقلت عنه بلومبيرغ. وسياسياً، لا تحظى استراتيجية ترامب بشعبية كبيرة، فقد أظهر استطلاع أجرته "فوكس نيوز" أن 62% من الأميركيين يعارضون طريقة إدارته للرسوم الجمركية، و55% غير راضين عن أدائه الاقتصادي العام.
لكن ترامب ومستشاري البيت الأبيض لمختلف الاختصاصات، يرون أن السياسة الحمائية تحقق مكاسب مالية كبيرة لاقتصاد الولايات المتحدة، استناداً إلى تجاوز عائدات الرسوم الجمركية 113 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري. لكن ترامب يواجه معضلة أساسية يحذر منها خبراء كبار ومن هؤلاء أستاذ الاقتصاد في جامعة جورجتاون، براد جنسن، الذي تنقل عنه بلومبيرغ قوله إنه "إذا انتعش التصنيع المحلي فعلاً، فلن نحقق إيرادات جمركية كبيرة، لأن الاستيراد سيتراجع، ولا يمكن تحقيق الأمرين معاً".
مخاوف الأسواق إزاء الرسوم الجمركية
إلى ذلك، حذّرت مؤسسات مالية كبرى، بينها "مورغان ستانلي" و"دويتشه بنك" و"إيفركور آي إس آي"، من تراجع وشيك في مؤشر "ستاندرد أند بورز" (S&P 500)، على خلفية تنامي القلق بشأن التباطؤ الاقتصادي وتراجع ثقة المستهلك. ورغم ذلك، يبقى معدل البطالة منخفضاً، والأسعار لم تشهد بعد ارتفاعاً كبيراً، لأن الشركات تحملت حتى الآن جزءاً كبيراً من الكلفة.
لكن خبراء مثل ويندي كاتلر من معهد آسيا للسياسات، يؤكدون أن هذه الوضعية لن تدوم، ويُرجّحون أن ترتفع الأسعار قريباً مع تضاؤل هوامش الربح. ووفق تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، فإن الرسوم الجمركية الواسعة تُساهم في رفع التضخم بنسبة تراكمية تتراوح بين واحد و3% خلال 12 شهراً من التنفيذ، إذا لم تُخفَّض الرسوم أو تُقابلها إعفاءات ضريبية.

Related News
