"أمروم" لفاتح آكين: صرخة سياسية تحذيرية بجماليات سينمائية
Arab
2 hours ago
share

 

في "أمروم"، جديد الألماني التركي فاتح أكين، المعروض في قسم "عروض أولى" في الدورة 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، نقترب من الالتقاط الدقيق والصادق نفسه للروح الألمانية، في الملحمة التلفزيونية "الوطن" (1984 ـ 1992) لإدغار ريتز. رغم أنّ أجواء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) فيه تستدعي مثيلاتها لأوليفر هيرشبيغل وولفغانغ بيترسن، تُذكّر تصرّفات صبي "أمروم" وسلوكياته بأوسكار صبي "الطبل الصفيح" (1979) لفولكر شلوندورف.

بعد "القَطع" (2014)، عن مذابح الأرمن، يعود أكين إلى التاريخ، لكن هذه المرة إلى التاريخ الألماني المعاصر، وهذا يؤكّد قدرته ومهارته في التنقل السلس بين الأنواع السينمائية، وتناوله مواضيع شتى ببراعة وعمق لافتين للانتباه. في جديده هذا (تدور أحداثه في جزيرة "أمروم" النائية، في بحر الشمال، قبيل انتهاء تلك الحرب)، يُقدّم لأول مرة فيلماً عن طفل، لكنّه لم يَحِد إجمالاً عن مواضيعه الأثيرة: الهوية والغربة والاغتراب والولاء والحدود الثقافية، حتى داخل الوطن؛ وإصراره على استكشاف مدى تنوّع الهويات والأعراق واللغات، في المجتمع الألماني الواحد.

"أمروم" (شارك أكين في كتابته المخرجَ المخضرم وكاتب السيناريو هارك بوهم) مستوحى من التجارب الشخصية لبوهم في تلك الجزيرة: عام 1945، يشهد ناننينغ بومز (غاسبر بيليربك)، البالغ 12 عاماً، ووالدته وشقيقه وعمته، زلزال هزيمة ألمانيا، وسقوط الفاشية، وانتحار أدولف هتلر. تُطلق والدته هيلة (لورا تونكة)، الهتلرية حتى النخاع، كزوجها الغائب في الحرب، وناننينغ المرتدي دائماً الزيّ النازي للشبيبة بدافع الالتزام والانضباط، صرخة مدوية. ثم تسقط على الأرض، وتلد طفلاً قبل الأوان.

يُبدع أكين في رصد تداعيات الخبر المدمّر، وتأثيره على الأسرة، خاصة صدمة ناننينغ جرّاء سقوط الفاشية، التي اعتنقها بإخلاصٍ، وببراءة الجاهل بها وبتبعاتها. عبر هذه الأسرة، وناننينغ تحديداً، يُجسّد أكين جانباً نادراً من الحرب العالمية الثانية بفنّية مرهفة، ومشاعر صادقة ومؤثّرة، جاعلاً الصبي تجسيداً حقيقياً لمأساة جيل كامل. إلى ذلك، ناننينغ، على نقيض أوسكار (الطبل الصفيح) الرافض أنّ يكبر في السنّ والمتوقف عن النمو، بَلَغَ ونَضج، وربما هَرِمَ قبل الأوان. حتى البالغين حوله، كالصياد العجوز صديقه، والفلاّحين المسنّين، والخبّاز مقطوع الذراع، لا يأخذون في الاعتبار حداثة سنّه. أما الأولاد، ذوو العمر نفسه أو أكبر قليلاً، فمشاكسون وأشرار مؤذيّون ومتنمّرون، وفي أحسن الأحوال، ساخرون من كونه ليس أمرومياً خالصاً.

 

 

في ظلّ هذا التمزّق والانهيار والتخبّط وفقدان الهوية، تؤكّد له والدته أنّ المهم ليس مكان الولادة، بل السلالة، وليس مهمّاً أنّه لا يتحدث اللغة الأمرومية.

تتعقّد الأحداث، وحياة ناننينغ، بعد إصابة والدته، الوطنية المُتعصّبة، باكتئاب ما بعد الولادة، إضافة إلى صدمة وفاة هتلر، فترفض تناول الطعام نهائياً. يحاول الابن إشباع رغبتها في الخبز الأبيض والزبد والعسل، وإنْ خاطَر بحياته. ونظراً إلى عدم وجود دقيق أو سكّر أو بيض أو زبدة في المتاجر، وصعوبة الحياة بسبب الحرب والحصار وطبيعة الجزيرة، تُصبح تلبية أمنيتها مستحيلة. لكنّ ناننينغ، رغم خلافه المتفجّر مع والدته وعمته المناوئة لهتلر، والأولاد حوله، ووصمة الفاشية الملتصقة به، يُصمّم على تحقيق رغبتها بعزمٍ لا يلين، فيقوم برحلة طويلة، شاقّة ومُهلكة، بحثاً عن مُكوّنات صنع الخبز، وتوفير الزبد والعسل.

في الرحلة، الشيّقة والمثيرة، يُسلّط "أمروم"، بعيني ناننينغ، ضوءاً على ثقافة منطقة بحرية استثنائية، يندر ظهورها في السينما الألمانية، متناولاً معيشة أهل الجزيرة، وغيرهم من المنفيين والغرباء المُرَحَّلين من روسيا، وغالبيتهم مُضطرّة للعيش في ظلّ إيديولوجية ورثوها من دون ذنب. هنا، يُظهر الفيلم أوجه تشابه كثيرة مع عصرنا، ويدفع إلى التفكير في قضايا شتى، كالعنصرية والفاشية والتعصّب الأعمى، حتى بين من يُفترض بهم أنْ تكون لديهم براءة الطفولة.

الغريب أكثر أنّ هؤلاء جميعاً يعيشون بعيداً جداً عن الأحداث، ومجريات الحرب، والفظائع المرتكبة فيها، ولا يربطهم بالعالم سوى صوت المذياع، المُدجِّن لأفكارهم.

عبر سردٍ بسيط وصادق، وأداء بارع لغاسبر بيليربك في دور الصبي، وأماكن استُغلّت بشكلٍ خلاّب، صنع فاتح أكين سينما كبيرة، فكرياً وبصرياً، وأنجز نقلة لافتة للنظر في مسيرته. ورغم الاعتقاد الخاطئ، لوهلة، أنّ "أمروم"، كلاسيكي الطابع، يميل إلى موالاة الفاشية، وتقديم صورة متعاطفة مع النازيين، لا يتبنّى أكين، في النهاية، منظور الطفل عن فهمه وتصوّره للأمّة ـ الأمّ في أيامها الأخيرة، مُعتبراً أنّ الصدمة أجبرت الصبي على مراجعة نفسه وأفكاره.

بهذا، يكون "أمروم" صرخة مخرج ضد خطر صعود الأحزاب الفاشية، وانتشار الأفكار الديماغوجية في ألمانيا المعاصرة، ودعوة مخلصة إلى مراجعة النفس والأفكار، قبل دفع البلد مُجدّداً إلى تكرار ماضيها المأسوي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows