
في شوارع مدينة أسوان المصرية، وعلى جدران عماراتها، تبتسم وجوهٌ ذات ملامح جنوبية بتفاصيلها المميّزة، من الجلابيب المطرَّزة، والعمائم البيضاء، إلى الضفائر السمراء والزخارف. هي تفاصيل تستحضر هويةً جنوبية ونوبية غمرتها مياه السد العالي قبل عقود.
هكذا يشكّل الثنائي التشكيلي علي عبد الفتاح ومها جميل مشروعهما المشترك، الذي يتحول فيه الجدار إلى وسيلة لاستعادة الجنوب المنسي، واستحضار الرموز النوبية التي لطالما مثّلت هامشاً بصريّاً في المشهد الثقافي السائد.
مشروع الرسوم الجدارية، الذي أطلقه الفنانان منذ أكثر من عقد، لا يرسم صوراً جميلة فحسب، بل يعمل على ترميم الذاكرة الجمعية، وخلق مساحة للانتماء البصري والاجتماعي لسكان الجنوب. ففي إحدى الجداريات، يصوَّر رجلٌ مسنٌّ بملامح حكيمة، وخلفه معبد أبو سمبل، فيبدو الرجل حارساً للتاريخ، وفي أخرى، تظهر فتاةٌ بملامح جنوبية تبتسم أمام منزل حديث تتخلله عناصر من العمارة النوبية التقليدية. بهذه الطريقة، يعيد الفنانان إنتاج الجنوب، لا بوصفه ديكوراً، بل هوية مرئية.
لحظة تراجيدية
لكن الرموز النوبية لم تظهر فجأةً في الفن المصري المعاصر، إذ شكّلت، منذ خمسينيات القرن العشرين، مجالاً مُلهِماً للعديد من الفنانين المصريين، خاصةً مع اقتراب لحظة غرق قرى النوبة نتيجة بناء السد العالي. هذه اللحظة التراجيدية دفعت الدولة إلى دعوة الفنانين لتوثيق البيئة النوبية بكل تجلياتها، من عمارة وعادات وتقاليد وآثار، لكن بعض هؤلاء الفنانين ذهبوا إلى ما هو أبعد من التسجيل، ليحوّلوا النوبة إلى مجال تعبيري دائم.
تحوّل الرمز النوبي من وثيقة بصرية إلى مواجهة التهميش
الفنان حسين بيكار، أحد أوائل من استلهموا النوبة، لم يكتفِ بتسجيلها واقعاً خارجياً، بل انغمس فيها لسنوات. في لوحاته نرى العديد من الرموز والزخارف النوبية مثل الهلال والنجمة، والحمامة، وسعف النخيل، وكلها إشارات غنية بالتأويل. أما سيف وانلي، فكان أكثر غنائية وتجريبية، إذ نلاحظ في أعماله المرتبطة بالنوبة بساطة الخطوط والتكوين الهندسي للبيت النوبي، مع اهتمام خاص بالزخارف والخطوط المتكررة التي تمنح إيقاعاً للعمل. لوحاته النوبية تجمع بين البشر والطبيعة والفضاء، وتُظهر النوبيين جزءاً من نسيج كوني فسيح، حيث الإنسان ليس مركزاً للكون، بل عنصراً في مشهد أكبر.
بعد غرق النوبة، ظهرت موجة جديدة من الفنانين الذين لم يروا الجنوب قبل التهجير، لكنهم أعادوا استحضاره رمزاً. الفنان أحمد الدندراوي، ابن مدينة دندرة في صعيد مصر، اشتغل على عناصر العمارة النوبية في لوحات تُعيد تركيب البيت الشعبي أرشيفاً للذاكرة. أما الفنان فريد فاضل، فرغم أنه ليس نوبياً، فإن تجربته في النوبة تمتاز بخصوصية شديدة. لم يكن زائراً، بل كان مقيماً بين أهلها، عاش بينهم، وسكن الحكايات. ولوحاته تتميّز بصفاء لوني ودقة تركيبية عالية، وتجمع بين تأثيرات الفن المصري القديم، والقبطي، والإسلامي. يقول فاضل في مقدمة أحد معارضه إنه يحتاج النوبة؛ لأنها تمنحه مفردات الجمال ليحلّق بعيداً بأحلامه. هذه ليست عبارة شاعرية، بل تلخيص حقيقي لعلاقة داخلية بين الفنان والمكان.
فعل ثقافي ذو أبعاد سياسية
في العقد الأخير، بدأت فنانات مصريات، بعضهنّ من أصول نوبية، في التعبير عن الجنوب المصري من زاوية نسوية وإنسانية، كما في أعمال الفنانة مرفت شاذلي، التي أعادت تقديم المرأة الجنوبية، ليس رمزاً فولكلورياً، بل بوصفها فاعلاً مركزياً في مشهد الحياة. في لوحاتها تحضر الألوان الدافئة والثياب التقليدية، في توليفة بصرية تعبّر عن الكرامة والهوية والانتماء. وعلى نحوٍ موازٍ، تصدّى فنانون آخرون للتعبير عن الإرث البصري الغني للجنوب، كما في أعمال محمد الجنوبي، وعلي المريخي، وعمر عبد الظاهر، الذين اشتغلوا على استلهام البيئة النوبية والصعيدية، واستعادوا عناصرها الرمزية والمعمارية بأساليب متنوعة.
فنانو الخمسينيات حوّلوا النوبة إلى حالة فنية ممتدّة
ولم يكن حضور النوبة، أو الجنوب المصري عموماً، في الفن مجرّد انشغال جمالي بمنطقة غنية بالألوان والرموز، بل كان، ولا يزال، فعلاً ثقافيّاً ذا أبعاد سياسية كامنة. ففي بلد تمركزت فيه الثقافة لعقود داخل العاصمة، وجرى تمثيل الوطن بصور محدودة تُقارب الطبقة الوسطى القاهرية، بدا الجنوب، بما يحمله من اختلاف لغوي وثقافي وجمالي، كأنه يقع خارج المتن الوطني. من هنا؛ فإنّ كل فنان أعاد رسم بيت نوبي، أو استحضر الطبيعة الجنوبية، كان، على نحوٍ واعٍ أو غير واعٍ، يعيد ترتيب الخريطة الرمزية للهوية المصرية، ويمنح الهامش صوتاً وصورةً في المشهد الثقافي العام.
هذا البُعد يظهر بوضوح في مفارقة لافتة؛ فبينما كانت الدولة المصرية منشغلة بتجميل الجنوب من أجل السياحة، كانت الجداريات واللوحات تحاول إظهار النوبة ذاتاً لا خلفيةً، وصوتاً لا منظراً. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل مشروع الثنائي علي ومها عن هذا التوتر، حتى وإن لم يُصرّحا بذلك، فحين تُمنح الجدران لسكان الجنوب ليعيدوا رسم أنفسهم، فإن ذلك يُعدّ اختراقاً لما تفرضه سياسات التجميل الرسمية من صمت بصري وتوحيد للهوية. لقد لعب الفن، في كثير من الحالات، دور الوثيقة البديلة، لا عن الماضي فحسب، بل عن المسكوت عنه في الحاضر. وكل جدارية تُرسم اليوم في أسوان، أو لوحة تُعلّق في قاعة صغيرة بالقاهرة عن النوبة، هي تذكير بأنّ الجنوب لم يمت، وأنه لا يزال يطالب بحقه في أن يُرى ويُقال، لا بوصفه استثناء، بل بصفته جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة المصرية.
إنّ ما يجمع بين هذه التجارب كلّها، هو أنّ الرموز النوبية والجنوبية لم تكن زينة، بل أداة مقاومة؛ مقاومة للنسيان، وللتهميش، وللخطاب الرسمي الذي حاول اختزال النوبة في مشهد سياحي سطحي. في مقابل هذا الخطاب، جاء الفن ليقول شيئاً مختلفاً، وهو أن الجنوب ليس موقعاً جغرافيّاً فحسب، بل حالة بصرية وروحية تستحق أن تكون في قلب المخيلة الوطنية. ولعل مشروع الثنائي علي ومها، المتمثل في الرسم على جدران المدينة، لا ينفصل عن هذا المسار، بل يُكمله. من اللوحة إلى الجدارية، ومن الخيال إلى الجدار، تظل الرموز النوبية حاضرةً مثل ذاكرة حيّة، لا تُمحى، بل يُعاد رسمها واكتشافها من جديد.

Related News
