
مصطلحا الأكثرية والأقلية من المصطلحات التي لا يمكن عزل دلالاتها عن السياقات التي تُستخدم فيها. فإذا كنّا نتحدّث عن الأكثرية العربية السُّنّية في سورية مثلاً، مقابل الأقلّيات الدينية والمذهبية والقومية الأخرى، فإننا نكون ضمن الدائرة العددية بالنسبة إلى المصطلحَين المعنيَّين. أمّا إذا كنّا نتحدّث عن توجّه أو الأغلبية أو رأيها مقابل توجّه الأقلية و رأيها، فهذا فحواه أن المقصود هو التمييز بين وجهات النظر والمواقف والميول. وهذا يشمل مختلف المؤسّسات والهيئات والأحزاب، وحتى الجمعيات الثقافية والاجتماعية والنوادي الرياضية التي تتخذ قراراتها بناء على قاعدة الالتزام برأي الأكثرية، وهي القاعدة الأولى التي لا يستغني عنها أيّ نظام يحترم آراء المواطنين الذين منهم يستمدّ المشروعية، بغض النظر عن الاسم والخصوصية. ولكن الحدود بين الأكثرية والأقلية بالمعنى العددي في معظم البلدان، وسورية في مقدّمتها، ليست فاصلةً صارمةً، بل متداخلة متشعّبة، تفتح الآفاق أمام إمكانية التواصل والتفاعل والاندماج مع احترام الخصوصيات والحقوق على صعيد الجماعات والأفراد.
فالعلويون، على سبيل المثال، في سورية ينتمون إلى الأقليات من ناحية المذهب، إلا أنهم من جهة الانتماء القومي ينتسبون إلى الأكثرية العربية. والأمر نفسه بالنسبة إلى الدروز وغالبية المسيحيين. في حين أن الكرد السوريين يشكّلون أقلّيةً عدديةً من جهة الانتماء القومي، إلا أنهم على المستوى الديني المذهبي ينتمون إلى الأكثرية السورية المسلمة السُّنّية؛ وهكذا بالنسبة لمعظم الأقلّيات السورية التي من الأفضل أن تعرّف بمصطلح "المكوّنات المجتمعية" السورية، لتجاوز الوقع السلبي لمصطلح الأقلّية الذي أصبح، في غياب المجتمع الوطني الراسخ المتمحور حول فكرة المواطنة، يمثّل صيغةً من الفرز بين المواطنين والتمييز بينهم، والتوجّس المتبادل.
السوريون اليوم في أشدّ الحاجة إلى بناء الجسور بين سائر المكوّنات المجتمعية السورية، خاصّة بعد الأحداث الأليمة في الساحل والسويداء
ولكن الأمر الذي ينبغي ألّا يغيب عن الأذهان، من باب الاعتراف بما هي عليه الأمور في الواقع، هو حقيقية عدم وجود تجانس ضمن نطاق أيّ مكوّن من المكوّنات المجتمعية السورية، بغض النظر عن الحجم العددي، ويشمل ذلك حتى المكوّن السوري العربي السُّنّي الذي يشكّل الأكثرية العددية في سورية، وإنما هناك توجّهات وآراء ومواقف متباينة بخصوص القضايا المختلفة داخل كلّ مكوّن من المكوّنات، وهي توجّهات ومواقف من المفروض أن تعبّر عنها القوى المنظمة (الأحزاب والتيارات السياسية والحركات الشعبية أو هيئات المجتمع المدني). ومن الطبيعي أن تتلاقى هذه المواقف المتبانية داخل كلّ مكوّن مجتمعي سوري مع تلك التي تشبهها، أو تماثلها وتتشارك وإياها، وذلك في تصوّرها للحلول الخاصّة بمختلف القضايا، سواء الراهنة أم المستقبلية، ضمن المكوّنات المجتمعية الأخرى.
السوريون اليوم في أشدّ الحاجة إلى بناء الجسور (لا الجدران) بين سائر المكوّنات المجتمعية السورية، خاصّة بعد الأحداث الأليمة في الساحل والسويداء ومناطق سورية أخرى، وفي مناخات هيمنة الهواجس الخاصّة باحتمالية تفجّر الأوضاع في المناطق الشمالية الشرقية. وعملية بناء الجسور المجتمعية والسياسية على المستوى السوري حيوية وضرورية حتى الحدّ الأقصى، إذا كانت هناك رغبة فعلية في بناء دولة قوية تكون حاضنةً وحاميةً للجميع؛ دولة تحافظ على وحدة الاجتماع السوري بكلّ ألوانه وأطيافه وخصوصياته، وتطوّر العمران في سائر جهات الوطن السوري من دون أيّ استثناء. وللوصول إلى هذا الهدف، الذي من المفروض ألا يعلو عليه هدف آخر، لا بدّ من القطع مع عقلية تصنيف السوريين وفق مبدأ الخانات الشاقولية أو العمودية، التي ستتحوّل في غياب التوجّه الوطني الجادّ (الفعلي لا الشعاراتي) حاراتٍ، إن لم نقل "غيتوهاتٍ" مختطفة من مجموعات تمتلك القوة والأموال الرمادية، وغالباً ما تكون مدعومةً من قوى إقليمية أو دولية تُعدُّ سورية بالنسبة إليها مساحةً جغرافيةًُ تُتّخذ ميداناً لتقاسم النفوذ، وتمرير المشاريع والخطط القريبة والبعيدة، وهي خطط لن تقتصر على سورية وحدها، بل ستنعكس آثارها في كلّ دول منطقتنا الهشّة.
وعملية القطع مع عقلية التصنيف النمطي المشار إليه للطوائف تحتاج في واقعنا السوري إلى آليات وإجراءات قانونية، كما تحتاج إلى خطوات عملية في مختلف المجالات، وفي مقدّمة هذه الإجراءات والخطوات: تحريم الخطاب البيني الطائفي العنصري المقيت البغيض المهيمن على شبكات التواصل الاجتماعي وتجريمه، وإعادة النظر في السياسات الإعلامية. كما أن المناهج التعليمية بصورة عامة تحتاج إلى مراجعة بحثية نقدية ليكون هدفها إعداد المواطنين الملتزمين بالمشروع الوطني السوري، القادرين على النهوض بسورية لتكون قادرةً على مواجهة تحدّيات العصر، وتتمكّن من التقدّم في ميادين العلوم والتقنيات والاقتصاد والإنجازات الحضارية بكلّ أشكالها. وعلاوة على ما تقدّم، تحتاج سورية إلى حياة سياسية فاعلة عبر أحزاب عابرة لحدود الطوائف والقوميات، أحزاب تركّز في المشترك السوري، وتبني عليه، وتتنافس بصورة سلمية ديمقراطية من خلال برامجها الواضحة المُعلَنة من أجل الحصول على تأييد السوريين ودعمهم في انتخابات حقيقية، تجري بموجب دستور يتوافق عليه السوريون بكلّ انتماءاتهم وتوجّهاتهم عبر ممثليهم، وذلك لإسباغ شرعية شعبية لا يطاولها الشكّ، على مؤسّسات الدولة وشرعنة السلطة التي تديرها وتشرف عليها. سلطة تمثّل الأغلبية السياسية، لا العددية. ومثل هذه الأغلبية لا يمكن التحقّق منها إلا من طريق نتائج الانتخابات التي تشارك فيها الأحزاب والتيّارات والحركات والمنظّمات السياسية. فمن خلال الانتخابات النزيهة يظهر الحجم الحقيقي لكلّ قوة سياسية، الأمر الذي سيقطع الطريق على مزاعم هذا الفريق أو ذاك ممّن يدّعون بأنهم يمثّلون هذا المكون أو ذاك.
تحتاج سورية حياة سياسية فاعلة بأحزاب عابرة للطوائف والقوميات، تركّز في المشترك السوري
بالإضافة إلى ما تقدّم، يحتاج السوريون اليوم (أكثر من وقت) إلى الأمن والأمان، ومعالجة مشكلة السلاح المنفلت، وهم في حاجة ماسّة أيضاً إلى قواعد واضحة محدّدة شفّافة على أساسها يبنى الجيش الوطني، الذي من المفروض أن ينهي الحالة الفصائلية والمليشياوية، من خلال التوافق على إدماج الفصائل المسلّحة السورية ضمن الجيش المعني، ومعالجة أوضاع المقاتلين الأجانب وفق قواعد يتوافق عليها السوريون، وذلك بموجب آليات قانونية شفّافة تلتزمها المؤسّسات التشريعية والتنفيذية المعنية. ولعلّ من المناسب أن نبين هنا (بالتكامل مع ما سبق) بأننا لا نذيع سرّاً، ولا نأتي بشيء جديد، إذا قلنا إن سورية راهناً هي في قلب الصراعات الدولية والإقليمية على المنطقة، وهذا هو قدر الجغرافيا الذي دفعت سورية ضريبته على مرّ العصور، ولكنّها رغم ما تعرّضت له باستمرار، تمكّنت من تصدير كثير من المقوّمات الحضارية إلى العالم، في مقدّمتها أبجدية الحَرْف والحِرَف، وثقافة التجارة. وفي المقابل، استفادت سورية من انجازات الأقوام التي عبرتها أو تلك التي استقرّت فيها ثقافاتها، وتركت بصماتها بصور عدّة على هُويَّتها الحضارية وواقعها المجتمعي، ولكن الشخصية السورية ظلّت باستمرار قادرةً على تمثّل المكتسب، وتحويله جزءاً عضوياً من بنيتها الثقافية الخاصّة بها، لتتجلّى الحصيلة بمختلف الصور والصيغ الإبداعية، تعبّر عنها هُويَّة سورية جامعة نفتقدها اليوم كثيراً بعد أن دمّرها الاستبداد والتطرّف بمختلف ألوانه. سورية اليوم تمتلك ما يكفي من شروط النهوض والتقدم، ولكنّها تحتاج إلى إدارة رشيدة قادرة على إدارة التنوع السوري بحكمة وبُعْد نظر، يفسحان المجال أمام الجميع للمشاركة والمساهمة في عمليات البناء المجتمعي والعمراني؛ إدارة تحترم حقوق الجميع مقابل التزامهم بواجباتهم الوطنية.
بقي أن نقول إن المرحلة الانتقالية الراهنة التي تمرّ بها سورية بالغة التعقيد والخطورة، والإجراءات والممارسات التي اعتمدت، لا سيّما على الصعيد الأمني في إطار التعامل مع القضايا والمشكلات التي حدثت، أثبتت إخفاقها، بل اسهمت في إثارة المزيد من الهواجس لدى السوريين، هؤلاء الذين من حقّهم الطبيعي بعد 14 عاماً من المواجهة القاسية المباشرة مع واحدة من أكثر السلطات استبداداً وتوحّشاً وفساداً في عالمنا المعاصر، أن يحظوا بسلطة عادلة تضمن لهم الأمن والأمان، ومقوّمات العيش الكريم، وتفسح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم بحرّية بشأن شكل الدولة وطبيعة نظامها وصيغة إدارتها، بموجب قوانين واضحة شفّافة تضمن كرامتهم، وتقطع الطريق أمام فوضى عارمة لن تكون في مصلحة أحد، لا سورياً ولا إقليمياً، ولا حتى على المستوى الدولي. الدولة السورية الموحّدة القوية مصلحة مشتركة بين جميع السوريين. ولبناء هذه الدولة لا بدّ من الانفتاح على السوريين جميعاً بكلّ انتماءاتهم وتوجّهاتهم، وطمأنتهم من خلال تبديد الهواجس، وتعزيز الثقة بخطوات تنفيذية ملموسة، وعدم الاكتفاء بوعود يؤدّي تكرارها من دون نتائج عملية إلى تآكل المصداقية.

Related News



