
لم تكن الإدارة الأميركية بحاجة إلى معاينة ميدانية للاطلاع على فظائع المجاعة في غزة، إذ إنها على دراية بحجم الجريمة وأغراضها الإسرائيلية، أما وقد فعلت من خلال زيارة المبعوث ستيف ويتكوف، الجمعة، إلى القطاع، فإن المفترض والمطلوب أن يبنى على الشيء مقتضاه، خاصة أن الزائر وضع مهمته في إطار الاطلاع على ما يجري هناك، والمساعدة في بلورة خطة جديدة لمعالجة المجاعة، ليقدمها إلى الرئيس دونالد ترامب.
رغم ذلك، فإن البوادر لا تشجع حتى الآن في بلورة خطة تعالج أزمة المجاعة، إذ لم تكن التصريحات التي رافقت زيارة ويتكوف ولا التي تلتها في اليومين الماضيين، بما في ذلك تصريحات الرئيس دونالد ترامب، مساء الأحد، توحي بأكثر من تحرك لا يتعدّى سقفه القيام بإجراءات تعالج الجوانب والثغرات التقنية، وبما يساعد على التخفيف من حدّة الصورة الفاضحة والمحرجة لواشنطن.
من البداية توالت الإشارات في هذا الاتجاه، حيث نوه السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي عقب وصوله مع ويتكوف إلى غزة، بـ"الدور الخارق" الذي تقوم به "مؤسسة غزة لتوزيع المساعدات الإنسانية"، في تصريح انطوى على نكران مموّه لفظائع التجويع. واعتبر أن قيامها بتوزيع مليون وجبة غذائية حتى الآن إنجاز خارق "لا يصدّق"، علماً بأن هذه الكمية التي بدأ توزيعها منذ 27 مايو/ أيار الماضي "لا تغطي سوى أقل من وجبة واحدة للفرد يومياً".
وتتهم المؤسسة المرتبطة بإسرائيل والتي تتمتع بحماية عناصر أمنية أميركية، بالتواطؤ مع القوات الإسرائيلية، لاصطياد الجوعى بالرصاص (حوالي ألف شهيد حتى الآن) عند مداخل مراكز التوزيع. وقد أثار دورها ضجة واسعة حملت عدداً من الديمقراطيين في مجلس الشيوخ على مطالبة وزير الخارجية ماركو روبيو بقطع التمويل عن هذه المؤسسة. مع ذلك يصرّ السفير هاكابي المقرب جداً من الرئيس ترامب، والذي لا يعترف بوجود الأراضي المحتلة ويصر على تسمية الضفة الغربية بـ"يهودا والسامرة" (التسمية الإسرائيلية)، على وضع هذا الدور في خانة الإنجازات الخارقة، وبما يؤشر إلى النية بترك التوزيع في عهدة هذه المؤسسة، مع تعديلات طفيفة ربما في الإخراج لتنفيس الاعتراضات، كما يؤشر أيضاً إلى استمرار التنسيق مع إسرائيل في موضوع المساعدات.
وفي أول تعليق له على زيارة غزة، اكتفى الرئيس ترامب بالإشارة إلى ضرورة العمل على تصحيح عملية التوزيع، وقال "نريد تأمين الغذاء للناس لأننا لا نريد تجويعهم". وتبدو زيارة ويتكوف أنها انتهت إلى معالجة سطحية بعيداً عن الحلول الجذرية التي أعادت الإدارة تموضعها بشأنها، إذ أبدى المبعوث الأميركي تفهمه إن لم يكن تبنيه مشروعاً جديداً تطرحه حكومة بنيامين نتنياهو لتحقيق "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب بدلاً من السعي إلى حل جزئي بوقف النار، لكن المشروع مربوط بشروط يصفها المراقبون بأنها تعجيزية (إلقاء السلاح، وترحيل قيادة حركة حماس إلى المنفى، وتجريد القطاع من الأسلحة والمعدات العسكرية، وإعادة المحتجزين الإسرائيليين) تكفل رفضه وبما يضمن لنتنياهو مواصلة الحرب طمعاً بتحقيق أغراضها المضمرة، وعلى رأسها تهجير فلسطينيي غزة.
وبحسب خبراء بمن فيهم إسرائيليون، فإن الاستمرار بمثلث حرب التجويع - الإبادة - التطهير العرقي، لم يعد له مبرر عسكري، وصارت المهمة أبعد من ذلك، وتتعلق بتفريغ القطاع، خاصة أن هذا المشروع لا يعتبر جديداً، وسبق أن طرح ترامب منذ بداية رئاستة الثانية ذلك، وما زالت سيرته تتردد بصيغة أو بأخرى، بين الترغيب والتخيير.
الفاجعة الإنسانية في غزة، كان يجب أن تكون كافية لفرض وقف الحرب التي باتت تهدد بخطر التهجير، والمناخ الداخلي الأميركي مناسب لخطوة بهذا الحجم؛ 60% من الأميركيين ضد حرب غزة ودعمها، وأكثر من ربع مجلس الشيوخ بواقع 27 عضواً من الديمقراطيين، صوتوا الأربعاء الماضي لوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة، وهو رقم غير مسبوق في هذا الخصوص، لكن البيت الأبيض يكتفي بالتعبير عن امتعاضه من مشاكسات نتنياهو، من غير إدانته حتى ولو تعمّد منع لقمة العيش من الوصول إلى أفواه المجوّعين. وفي ذلك تبدو زيارة ويتكوف لا أكثر من بروباغندا إعلامية لمعالجة جرح كبير بالمسكّنات.

Related News
