
يكشف تحقيق "العربي الجديد" المدعوم بوثائق قضائية وتحديث استخباري كيف تعاظم وجود المرتزقة داخل قوات الدعم السريع ما يحوّلها إلى ما يشبه جيش احتلال أجنبي بعد تجنيد الآلاف وتدريبهم في منشآت حكومية بدول جوار السودان.
- بيسر تعرفت الأربعينية السودانية إنعام كمال الدين على وشم يميّز شعب قبيلة النوير (إحدى مكونات جنوب السودان) في وجه جندي استوقف أسرتها للتفتيش خلال رحلة فرارهم من "ود مدني" عاصمة ولاية الجزيرة التي سقطت في قبضة "الدعم السريع" في ديسمبر/كانون الأول 2023، بينما كانوا في طريقهم إلى بلدة الشبارقة البعيدة بنحو 30 كيلومتراً.
اجتازت إنعام خلال رحلتها عشرات الحواجز الأمنية التي يديرها جنود ملامحهم ولهجتهم ليست سودانية عجزوا عن قراءة مستندات العائلة المكتوبة بالعربية، فاستعانوا برفقائهم العرب لترجمتها، تقول لـ"العربي الجديد": "شعرت أنّني لستُ في بلدي".
جيش احتلال
تتباين أعداد قوات الدعم السريع في ظل حالة السيولة التي يمر بها السودان منذ اندلاع الحرب بين الجيش والمليشيا في أبريل/نيسان 2023، وبينما تقدرها دراسة نشرت في أغسطس/آب 2024 بعنوان "السودان: إعادة النظر في الصراع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع" أعدها فريدريك أبياه أفيري الباحث في مركز أبحاث التحليل والدراسات الأمنية (RECASS - بحثية خاصة مقرها غانا) بعدد يتراوح بين 70 إلى 150 ألف مقاتل. إلا أن الباشا طبيق مستشار قائد المليشيا محمد حمدان دقلو، يقول أن الأعداد نمت من مئة ألف في 2021 لتصل إلى 650 ألف مقاتل نهاية يونيو/حزيران 2025، مرجعاً ذلك لـ"انضمام عشرات آلاف السودانيين منذ اندلاع الحرب وحتى الآن".
لكنّ "العربي الجديد" حصل على معطيات تدحض تفسيره، وتدعم شهادة إنعام عن تعاظم دور المرتزقة الذين يقدر العميد نبيل عبدالله الناطق باسم القوات المسلّحة السودانية نسبتهم الحالية بنحو 65%، ويقسمهم إلى مستجلبين من الخارج تسند إليهم المهام النوعية كتشغيل المسيّرات والمدافع المضادة للطيران، وأجانب مستنفرين من الداخل السوداني ينخرطون في الاشتباكات الميدانية والاستخبارات وفرض السيطرة الأمنية.
تقديرات ببلوغ نسبة المقاتلين الأجانب في الدعم السريع 65%
تحقق "العربي الجديد" مما سبق عبر وثائق لاعترافات قضائية جرت أمام الإدارة العامة للقضاء العسكري التابعة للقوات المسلحة السودانية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وأدلى بها سبعة مرتزقة جنّدوا من مناطق سيطرة الدعم السريع بالخرطوم ونيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور وولاية غرب كردفان خلال الفترة بين يوليو/تموز 2023 ومايو/أيار 2024، وأدوا مهامّ تنوعت بين قتالية وأمنية، وحتى استخبارية كالتي أسندت للجنوب سوداني لينو سارفرينو (46 عاماً) الذي جنده أحد عناصر الدعم السريع ويدعى أحمد يوسف بمنطقة الشهداء وسط أم درمان، ولمعرفته الجيدة بالمنطقة عمل جاسوساً ودليلاً يخبرهم بمقارّ البنوك ومنازل القادة العسكريين، لقاء راتب شهري 250 ألف جنيه سوداني (416 دولاراً) ومواد تموينية ووقود.
وجند الدعم السريع بعض فلول جيش التحرير الشعبي السوداني (حركة عسكرية نجحت في فصل جنوب السودان عن شماله) حسب اعتراف الجنوب سوداني دينق أوباك (28 عاماً)، الذي حمل رتبة عريف إداري متخصص في استخدام "الدوشكا" (مدفع روسي مضاد للطائرات) في قوات الحركة خلال الفترة بين 2012 و2015، وأتى إلى الخرطوم في 2020 ليعمل بمغسلة ملابس في "ود البشير" ثم جند في صفوف المليشيا في شهر يناير/كانون الثاني 2024 وأسندت له مهام تحديد المواقع المستهدفة بالمدفعية المتمركزة بمنطقة الريف الشمالي لأم درمان والمتاخمة لمنطقة كرري العسكرية، ودرب مرتزقة آخرين على الأسلحة الثقيلة، وشارك في 4 معارك ضدّ الجيش بأم درمان وخصّص له راتب شهري 500 ألف جنيه (832 دولاراً)، بالإضافة للسماح له بنهب المنازل والمحال التجارية في مناطق سيطرة الدعم السريع.
وتورط الدعم السريع في تجنيد قصّر لا يملكون خبرات عسكرية وإسناد مهام قتالية لهم، كالجنوب سوداني "لوال دينق" (15 عامًا) الذي كان يعمل مزارعًا في منطقة محلية الدبب جنوبي ولاية غرب كردفان الحدودية مع جنوب السودان التي سيطر عليها الدعم السريع في أكتوبر 2023، والذي اعترف بتجنيده ضمن صفوف الدعم السريع على يد شخص يدعى عبد الله أكوت في مقابل وعد بالحصول على مليوني و200 ألف جنيه سوداني (ألفا دولار وقتها) تصرف لهم عقب التدريب في الخرطوم لمدة شهر، وهو ما لم يحدث، إذ تلقى فقط 80 ألف جنيه (133 دولارًا)، ثم انضم إلى كتيبة قوامها من 150 جنديًا (80 سودانيًا و70 جنوب سودانيين) تحركوا على متن شاحنات لمدة شهرين حتى وصلوا إلى الخرطوم وعسكروا بضاحية "الجريف غرب" شرقي المدينة تحت قيادة اللواء عبد الله حسين، القائد السابق لقوات الدعم السريع بولاية الجزيرة، الذي قتل في غارة جوية للجيش في فبراير/ شباط الماضي، تدربوا وقتها على استخدام المدافع الرشاشة وبنادق الكلاشنكوف، بعدها شارك لوال في عدة عمليات عسكرية ضد الجيش في منطقتي المقرن والسوق العربي القريبتين من القصر الرئاسي ومقارّ الوزارات بالخرطوم تحت قيادة ملازم جنوب سوداني يسمى "وليم" ضمن سرية تضم عربتين عسكريتين وثلاث مدرعات و40 فردا.
ولم ينكر عضو لجنة العلاقات الخارجية في برلمان جنوب السودان ستيفن لوال نقور مشاركة مقاتلين من بلاده في صفوف الدعم السريع، لكنه يؤكد أنهم "لا يمثلون الجيش الشعبي الحكومي بل هم مسلحون متمردون لن يفلتوا من المحاسبة".
تورّط مسؤولين في دول الجوار
يوثق تحديث استخباري سري صادر في 25 مارس/آذار 2025 اطلع عليه "العربي الجديد" بعنوان "تجنيد الدعم السريع للمقاتلين الإقليميين"، تدفق آلاف المقاتلين الأجانب جلّهم من تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر للسودان للقتال بجانبها، وتركز وجودهم في ولاية شمال دارفور وفي الخرطوم التي سيطر عليها الدعم السريع منذ إبريل 2023 حتى أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان تحريرها مارس 2025.
ويؤكد التحديث الذي تناقلته دائرة محدودة من الحكومة السودانية ودبلوماسيون غربيون تورط مسؤولين كبار وقادة حركات متمردة في تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا والنيجر في تجنيد المرتزقة، موثقا عدة حالات من أبرزها نائب المدير العام للشرطة التشادية عبد القادر بابا لادي الذي استغل علاقاته الواسعة داخل مجتمعات قبائل الفولان والعرب ليجند قرابة 800 تشادي معظمهم دون العشرين بين نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وفبراير 2025، وعرضت عليهم مبالغ تتراوح بين مليون ومليوني فرنك أفريقي (من 1,650 إلى 3,300 دولار أمريكي) مقابل ستة أشهر من الخدمة، ويشرف لادي مباشرة على تدريبهم بإسناد من ضباط جيش وشرطة محليين.
يجري تدريب المرتزقة داخل معسكرات حكومية في تشاد
ولنفوذهم الحكومي يدرب السماسرة المرتزقة في مراكز حكومية، ويسمي التحديث الاستخباري تحديداً، مركز الدرك الوطني (حكومي) في أبشي (780 كيلومتراً شمال شرق إنجامينا) ومركز التدريب العسكري في موسورو (300 كيلومتر شمال شرق إنجامينا)، مركزين أساسيين لتدريب يستغرق 45 يوماً، بعدها يرسل المرتزقة للسودان عبر معبر أدري الذي يسيطر عليه الدعم السريع، ويجمعون بمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور ثم يوزعون على مواقع القتال، ويفوّج المرتزقة في دفعات لا تزيد عن مئة لتجنّب جذب الانتباه، لكن ومع تزايد الإقبال ارتفع العدد لـ300، وأشار التقرير الاستخباري إلى تدريب مرتزقة أجانب لهم على استخدام المسيّرات وصواريخ أرض-جو لنشرهم في محيط الخرطوم، وهو ما يتفق مع تأكيد العميد نبيل عبدالله رصد الجيش مجموعات مرتزقة متخصّصة في تشغيل المسيّرات واستخدام الأسلحة النوعية كالمضادة للطيران والدروع.
وبينما يرفض رئيس هيئة الدعم المدني للدعم السريع بأوغندا سمير إسماعيل المعلومات السابقة، متذرعاً بعدم حاجتهم لاستجلاب مرتزقة لتوفر القوة البشرية، يشير التحديث الاستخباري إلى تمدّد التجنيد في أفريقيا الوسطى التي يتوسّط فيها بابا لادي بين الدعم السريع وقادة متمردين من بينهم علي داراسا، قائد حركة الاتحاد من أجل السلام في أفريقيا الوسطى (UPC) وهي جزء من تحالف "سيليكا" (ائتلاف جماعات مسلّحة تأسس في 2012 أسقط الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي عام 2013)، ونور الدين آدم زعيم "الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى"، ولهذه المليشيات علاقات وثيقة بالدعم السريع، وسمى التقرير الاستخباري ضابطين تشاديين بالدعم السريع هما يحيى إسحاق وحبيب حريكا، يديران شبكة جنّدت 1300 مقاتل في يناير 2025، مع تقديرات بوصول ألفي مقاتل إضافي من شمال البلاد في رمضان الماضي ليبلغ إجمالي عدد المقاتلين من أفريقيا الوسطى 3300 مرتزق بدأ نشرهم بالفعل في الجنينة ونيالا.
ويكشف التحديث الاستخباري عن تجنيد 900 مرتزق تشادي متخصّصون في الأسلحة الثقيلة، سبق وأن قاتلوا ضمن قوات الليبي خليفة حفتر، خلال الفترة بين ديسمبر 2024 وفبراير 2025، مؤكداً التحاق بين 600 و700 منهم بالدعم السريع بحلول مارس 2025، فيما جندت قوات حفتر مقاتلين من "جبهة التغيير والوفاق في تشاد" (منظمة سياسية عسكرية معارضة) و"مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية" (جماعة مسلّحة معارضة)، وأغرتهم بالمال والحماية مقابل ستة أشهر من الخدمة في دارفور.
وجنّد الدعم السريع مقاتلين من سكان منطقتي مارادي وزندر، جنوب النيجر، وبحسب التحديث الاستخباري، يتلقى المرتزقة المستجلبين تدريباً في مركز موسورو بتشاد، يستمر من شهرين إلى ثلاثة، لأن معظمهم لا يملكون خبرات عسكرية، ويقوم على التدريب مدربون تشاديون وضباط نيجريون تربطهم علاقات وثيقة بالمسؤولين التشاديين، ولم يُرسل هؤلاء المجندون إلى جبهات القتال، بل كُلّفوا مهمات الشرطة والأمن في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع.
تكتيكات هجومية وأدوار أمنية واستخبارية
تتنوع المهام المسندة إلى المرتزقة بين قتالية وأمنية واستخبارية، وتؤكد مصادر التحقيق والمعلومات الواردة في الوثائق، أن الدعم السريع يعتمد عليهم لتنفيذ تكتيكات هجومية وصفها قائد معهد ضباط الصف الأسبق اللواء ركن متقاعد سليمان مختار حاج مكي بـ"الصدمة والرعب" ضدّ المواقع الدفاعية، ويقول لـ"العربي الجديد" إن نجاحه يعتمد على حشد أكبر قدر من المقاتلين الأجانب في المقدمة، مزودين بعربات دفع رباعيّ مجهزة بمدافع مختلفة كالرباعي، والثنائي، والدوشكا عيار 12.7 مليمتراً، وهي أسلحة مضادة للطيران لكنّ المرتزقة يجيدون استخدامها في الاشتباكات الأرضية، وهو ما توثقه اعترافات المرتزقة السبعة، الذين أكّدوا جميعهم مشاركتهم في معارك عديدة ضد الجيش السوداني، ويعزي العقيد السابق دفاع جوي في الجيش السوداني حمدي المنصوري هذا لتفادي الدعم السريع المغامرة بالسودانيين.
ووفق المنصوري يتولى قطاع من المرتزقة مهامّ نوعية لخبرتهم في أنظمة التشويش ومنصات الصواريخ وصيانة الأسلحة الثقيلة، مؤكداً أنّ أنظمة التشويش والمضادات الأرضية التي يشرف على تشغيلها أجانب ساهمت في إسقاط طائرتَين للجيش السوداني من طراز أنتوف في إبريل الماضي.
وغير المهام القتالية، يشير المنصوري إلى الأدوار الأمنية المسندة للمرتزقة كحراسة المناطق الحساسة، وتسيير الدوريات الأمنية بمناطق سيطرة الدعم السريع، وينقل عن قادة ميدانيين بالجيش السوداني تأكيدهم تولي مرتزقة لدى الدعم السريع مناصب قيادية ومسؤوليتهم عن تأمين طرق الإمداد من تشاد وأفريقيا الوسطى وحماية القادة.
مصير المرتزقة الأسرى؟
في 10 مارس الماضي أعلن النائب العام الفاتح طيفور أسر 122 مرتزقاً بواقع 58 تشادياً و51 جنوب سوداني وعشرة إثيوبيين وسوري ونيجيري ومرتزق من أفريقيا الوسطى، مؤكداً توثيق أوراقهم الثبوتية الشخصية التي تثبت حملهم جنسيات هذه الدول وخضوعهم للتحقيق، وبموجب مواد القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 من 50 وحتّى المادة 61 المجرِّمة للأفعال التي "تقوّض النظام الدستوري وتحارب الدولة" تنتظرهم عقوبةُ الإعدام ومصادرة الأموال.
يضيف المحلّل القانوني شوقي يعقوب الباحث بالمركز الأفريقي للعدالة ودراسات السّلام (خاص مقره أوغندا)، أن المحاكم المحلية لا الدولية معنية بهذه الحالة، قائلا :"سبق أن قرر القضاء السوداني إعدام العسكريين التشاديين والليبيين الذين شاركوا في محاولة انقلاب العميد بالجيش السوداني محمد نور سعد على الرئيس الأسبق جعفر نميري عام 1976، وهو ما ينتظر من تثبت عليه التهمة هذه المرة".
