مهرجان جرش ومشاغله
Arab
4 hours ago
share

ليس مهرجان جرش حدثاً فنياً بحتاً، بل هو ثقافي في المقام الأول، بمعناه الشامل الذي يتضمّن الفنون كافة، من مسرح وفنون شعبية وتشكيل ونحت، وليس الغناء فقط. وما يُحسب للمهرجان الذي يحتفل بدورته التاسعة والثلاثين هذا العام (23 يوليو/تموز الحالي حتى 2 أغسطس/آب المقبل) أنه جاهد طيلة عقودٍ قاربت الأربعين في الموازنة بين ما هو تجاري يدر دخلاً، وما هو ثقافي بحت يتطلب دعماً واستمراراً. وسواء أخفق مهرجان جرش في تحقيق هذه الموازنة في دورةٍ ما أو تلك، فإن حرصه على الموازنة بين الثقافة والربح يظل محموداً، رغم التراجع الذي شهده لأسباب معقّدة، بعضها مرتبط بدوره الوظيفي، وأخرى بالتطورات الإقليمية.

تُنظّم في المهرجان هذا العام عشرات الفعاليات الثقافية، في مجالات السرد والفلسفة وذاكرة المكان، إضافة إلى الشعر، ومنها "ملتقى السرد العربي السادس" الذي يحمل اسم الروائي الراحل جمال ناجي، ويُناقش موضوع "تحولات السرد العربي في العصر الرقمي" بمشاركة نقاد وروائيين أردنيين وعرب. هذا الملتقى يذكّر بواحد من أهم الروائيين الأردنيين من جيل الثمانينيات، الذي بدأ مسيرته الإبداعية بروايته القصيرة والبديعة "الطريق إلى بلحارث" عام 1982.

الرواية نفسها تستحضر ما أصبح يُعرف بثلاثية يخلف (يحيى) وناجي (جمال) ونصر الله (إبراهيم)، وبرواياتهم "نجران تحت الصفر" (1977)، و"الطريق إلى بلحارث" (1982)، و"براري الحُمّى" (1985) توالياً. تدور هذه الروايات في السعودية، وتعكس قسوة العيش في مناطق نائية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث الصحراء، والموت، وغياب الجدوى.

ما يلفت النظر أن هذه الروايات هي التجارب الروائية الأولى لأصحابها الذين أصبحوا أعلاماً في السرد العربي. ولعل الثلاثة يُحيلون بطريقة أو أخرى إلى غسان كنفاني وروايته القصيرة "رجال في الشمس"، حيث يموت أبطالها قبل وصولهم إلى مغتربهم الخليجي (الكويت في حالة كنفاني). كأن أبطال روايات الثلاثة يعاينون الموت نفسه، لكن بعد الوصول، وهي ثيمة أظن أنها تعود إلى ماضي منطقة الخليج في أيامنا، ما لا يقلل من القيمة الإبداعية للروايات، رغم أن إحالاتها الاجتماعية والسياسية أصبحت أقرب إلى التأريخ السياسي منه إلى الواقع الراهن في العالم العربي والخليج.

ليس من مهام مهرجان جرش التقاط ظواهر كهذه، فهي موضوعات أكاديمية وثقافية بالدرجة الأولى، وربما جزء من مشاغل النخب الخليجية أكثر من ندوات في مهرجان جماهيري، كما أنها ترصد معنى المنفى والمغترب لدى الفلسطينيين، وكذلك تحولات اجتماعية كبيرة ودراماتيكية في الخليج، جرّاء فائض الثروة ومشاريع التحديث العملاقة التي انطوت على تعقيدات وتشوهات بقدر ما حملت من إيجابيات وانتقالات ربما كانت تحتاج إلى زمن أطول مما حدثت خلاله فعلاً، بسبب وفرة الثروة والرغبة الكبيرة في دخول العصر الحديث على أوسع نطاق. جزء من ذلك مرتبط أيضاً بصورة الخليج، أو الجانب المعتم منها، وهو مرتبط بمن عاشوا فيه أو اقتربوا منه في كتاباتهم من زوايا مختلفة، تعكس نظرة قاسية للخليجي اليوم، قد تُساء فهمها إذا لم تُدرج في سياقها الصحيح.

كان جمال ناجي من الذين قدموا "خليجهم" في روايته الأولى، لكنه ليس الوحيد، إذ هناك تجارب روائية مصرية ولبنانية إلى حد كبير، خاصة أن بلاد الشام ومصر كانت خزّان العمالة العربية الأكبر لدول الخليج منذ ستينيات القرن الماضي. وكان الخليج العربي حلمهم الأكبر لحياة كريمة في بلدانهم الأم. وتمتد هذه التجارب من حنان الشيخ إلى إبراهيم عبد المجيد وصنع الله إبراهيم، وصولاً إلى مكاوي سعيد (رواية "تغريدة البجعة")، وأنتجت خليجاً مختلفاً عن ذلك الذي نعرفه في عصر الفضائيات ومولات دبي، حيث رصدت تحولات دوله ومجتمعاته من زاوية الآخر العربي.

ما سبق، وإن استُرسل فيه بعض الشيء، يعني أن استعادة المهرجانات لدورها الثقافي الحقيقي من شأنه أن يثير كثيراً من الأسئلة المسكوت عنها والتي أثارتها رواية ناجي المُحتفى بها هذا العام في جرش، وهو ما أظن أن مهرجان جرش يسعى إلى فعله أو إثارته في بعض ملتقياته هذا العام، ومنها ذاكرة المكان الأردني، حيث يُعتبر المخيم جزءاً أصيلاً منها. والمأمول أن تكون هذه المقاربات جذرية، لا تكتفي بالاحتفالية، وأن تتم بلا تابوهات كما يحدث غالباً، رغم صعوبة ذلك.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows