
لم يكن لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب خمسة رؤساء أفارقة الأسبوع الفارط، فظّاً ومهيناً لهم فحسب، بل لشعوب القارّة بأكملها. للأفارقة علاقة خاصّة مع القارة الأميركية، لقد وهبت أفريقيا لونها للعالم الجديد كما منحته جهدها وكثيراً من فنّها المعاصر. لوّنت القارّة الأفريقية الأميركيَّتَين بالأسود، وبيّضها من قبل الأوروبيون بموجاتٍ عديدة من المهاجرين، الذين وصلوا إليها على امتداد خمسة قرون. كان وصول الأفارقة إلى هذا العالم قد جرى في سياقاتٍ مبكّرة أيضاً، ولكنّها مؤلمة. كان بيض أوروبا يصطادون الأفارقة بمختلف الحيل وتقنيات الصيد البشري، التي طوّروها وهو يطاردون سكّان هذه القارّة في الأدغال، ليُفرزوا ويُصدَّروا إلى مختلف مناطق أميركا. ارتكب بعضهم أشدّ أنواع الجرائم في حقّ أولئك المساكين، وعوملوا معاملةً قاسيةً، استغلوهم في بناء أميركا، فتولّوا مع غيرهم من المهاجرين (وإنْ بدرجات مختلفة) مدّ الطرقات وتشييد المباني وفلاحة الحقول. وظلّ الأمر على حاله تقريباً مع تحسّن طفيف في حقوقهم المدنية، إلى أن قامت انتفاضات السود المعاصرة، مع نشأة حركة الحقوق المدنية في ستينيّات القرن الماضي. تدريجياً، رفعت قيود عديدة كانت تحاصر السود، وغدت أميركا حافلةً بمختلف الألوان الخلاسية التي تناسلت من بعضها، وكان عليها أن تنتظر عتبة القرن الواحد والعشرين لترى رئيساً أسمر اللون، يعود في أصوله إلى قارّة أفريقيا، التي منها غادر أجداده عبيداً ذات يوم.
ينظر ترامب إلى أفريقيا من منظور براغماتي، لا يخلو من "عنصرية" وإهانة وازدراء
كانت فرنسا، بعد انسحابها المخيّب من الولايات المتحدة، والقارّة الأميركية كلّها، قد دخلت مغامرةً استعماريةً أخرى، حين وضعت ثقلها في قارّة أفريقيا خلال تقسيم العالم والنفوذ مجّدداً. نهبت ثرواتها البكر، وجرت إبادة جماعات بشرية وثقافات وطرق عيش، وظلّت الولايات المتحدة حتى حدود بداية القرن الحالي بعيدة نسبياً عن أفريقيا، وكأنها قد آثرت الانسحاب والتنازل لفائدة فرنسا، مفضّلةً مناطق أخرى أكثر جدوى آنذاك من ناحية الاقتصاد أو الثقل الجيوسياسي، فاتجهت الولايات المتحدة إلى آسيا والشرق الأوسط، وحتى إلى شرقي أوروبا، وظلّت فرنسا رغم موجات الاستقلال في هذه القارّة القوة العسكرية والثقافية الوحيدة المهيمنة هناك.
غيّرت التطوّرات في العقدَين الماضيَين من العقيدة الجيوسياسية القديمة لتصبح القارّة الأفريقية في المدار الجيوسياسي للولايات المتحدة أيضاً، وقد تكون التطوّرات الأمنية، وصعود الإرهاب في مناطق عديدة منها، قد دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في انسحابها التاريخي البارز من أفريقيا. كان العامل الأبرز المحفّز لاتساع اهتمام أميركا بالقارّة التمدّد الصيني في بلدانٍ عديدة، تمدّد ناجم عن تبرّم متزايد ومن التململ الرسمي والشعبي من الحضور الفرنسي، الذي ظلّ ينظر إلى القارّة وشعوبها أنهم مُستعمَرون سابقون عليهم واجب الطاعة الأبدية تجاه أسيادهم الدائمين الفرنسيين.
في هذه المستجدّات الجيوسياسية، برزت أيضاً أطماع التوسّع الروسي مجدّداً، الذي كان (ولا يزال) حضوراً بارزاً، مستفيداً من تراث الاشتراكية الأفريقية التي انتشرت خلال ستينيّات القرن الفارط، وهو العامل الذي يسّر عليهم الاتصال بالقادة الجدد، الذين شقّوا عصا الطاعة التي ظلّت مرفوعةً عليهم من الفرنسيين عقوداً بعد الاستقلال. كان لشركة فاغنر في السنوات الماضية أدوارٌ بارزة في عديدٍ من مناطق التوتر، والحروب والصراعات الأهلية الدامية، الجارية حالياً في السودان وليبيا والكونغو الديمقراطية، علاوة على الانقلابات التي جرت في مالي وبوركينا فاسو... إلخ، وهي تدير بالوكالة تمدّد النفوذ الروسي في القارّة عموماً، وخصوصاً في مناطق النزاعات المسلّحة.
قد تكون التطوّرات الأمنية، وصعود الإرهاب، قد دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في انسحابها التاريخي من أفريقيا
العامل الأخير لهذا الاهتمام الأميركي بالقارّة الأفريقية الهوس المَرضي للرئيس ترامب، الذي أثبت، مرّة أخرى، أنه يقدّم نمطاً من الرئاسة غير مألوف، إلا من حيث الفكرة السياسية، التي يفترض أن تقود ممارساته ومواقفه أو تصرّفاته، فالقارّة الأفريقية لا تمثّل له سوى منجم كبير من الموارد والمواد الثمينة، التي لا يُحسن أبناؤها التصرّف بها ولا استغلالها.
تنظر الولايات المتحدة (ترامب تحديداً) إلى أفريقيا من منظور براغماتي، لا يخلو من "عنصرية" وإهانة وازدراء، ولا يعود الأمر إلى مجرّد فجاجة شخصية يتسم بها الرئيس ترامب (كما أشرنا)، بل إلى بنية ذهنية لا تزال تحكُم العقل السياسي الأميركي، وتشكيل مواقفه لهذه القارّة، التي كان لها الفضل في نهضة العالم الجديد، وهي قارّة لا تزال توخز ضمير الحضارة الغربية بما ارتكبته من إبادة شنيعة خلال أكثر من خمسة قرون.
مع ذلك، لا يقع اللوم كلّه على رئيس غليظ، أهان بعضاً من زعماء القارّة حين استقبلهم أخيراً، بل على رؤساء قبلوا ذلك الإذلال كلّه، وجلّهم فاقد للشرعية والمشروعية، فضلاً عن فقر خيالهم السياسي. يجري ذلك كلّه والأطروحات "الجديدة"، التي أُعيد أحياؤها، تنتشر حتى بين النُّخب الفكرية الأميركية حين تتم مقاربة العالم من منظور ما بعد كولونيالي.
