نحو استراتيجية فلسطينية موحّدة
Arab
9 hours ago
share

أثار مصطلح "المشروع الوطني الفلسطيني" جدلاً طويلاً في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد أن خُلط بينه وبين البرامج السياسية للفصائل الممزوجة بإكراهات السياسة من جهة، والرواية التاريخية للشعب العربي الفلسطيني والثوابت الوطنية المتمثلة في حقّ العودة وتقرير المصير والمقاومة بأشكالها كافّة، التي كفلتها الشرائع الدولية، وحقّه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، من جهة أخرى. وقد تباينت الساحة الفلسطينية حول ماهية هذا المشروع وغاياته وأدواته وسبل تحقيقه، منذ تبنّي الحركة الوطنية الفلسطينية بغالبيتها برنامج النقاط العشر عام 1974، حلاً مرحلياً، يقوم على تأسيس سلطة وطنية (وُصفت يومها بأنها "مقاتلة") على أي شبر يتحرّر من الأرض الفلسطينية، لتسويغ مشاركة المنظّمة في العملية السياسية التي أعقبت حرب أكتوبر (1973). منذ ذلك الحين، سارت الثورة الفلسطينية في مسار متعرّج، اندلعت فيه معارك وحروب واغتيالات لقيادات الصف الأول. كما تخلّلته تنازلات تدريجية متتابعة، تُوّجت باتفاق أوسلو (1993)، وصولاً إلى انسداد أفق الحلّ السياسي، وعدم القدرة على الانتقال من الحكم الذاتي المحدود إلى دولة تتمتّع بأدنى مقوّمات السيادة. وحلَّ ذلك محلَّ المشروع الوطني الفلسطيني، منتحلاً اسمه، ومدعياً صفته.
أدّى ذلك إلى حدوث انقسام سياسي، تطوّر انقساماً جغرافياً، وفشلت محاولات المصالحة كلّها، نظراً إلى التباين العميق حول ماهية المشروع الوطني، وسبل تحقيقه، واعتقاد كلّ طرف أن الآخر يعوق مشروعه، ويهدّد بقاءه. وهذا ما يدعو إلى ضرورة التوافق على مشروع وطني يوحّد الشعب الفلسطيني، ويدحر الاحتلال، ويحافظ على الرواية التاريخية، ويُتفق فيه على استراتيجيات وأساليب النضال والمقاومة. ومنذ اتفاق أوسلو، عُمل على إنهاء دور منظمّة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وحُوِّلت جهازاً من أجهزة السلطة الفلسطينية، فلم يعد للمجلس الوطني الذي يُفترض به أن يجتمع مرّة كل عام أي دور يُذكر، وأضحى يجتمع مرّة كلّ 13 عاماً، إضافة إلى التلاعب في عضويته. كما أُنهيت المنظّمات الشعبية الفلسطينية، وصُودر حقّ الشعب الفلسطيني في اختيار ممثليه بطريقة حرّة وديمقراطية.

"المؤتمر الوطني الفلسطيني" أداة للوحدة ونبذ الانقسام، وتمسّك بمنظمّة التحرير وبإعادة بنائه

تراجعت الحركة الوطنية الفلسطينية، وترهّلت تنظيماتها التي تجاوز عددها 17 فصيلاً، ما بين فصائل رام الله، وتلك التي كانت معروفة بفصائل الشام، يضاف إليها التشكيلات المقاومة في غزّة. وقلّة قليلة منها ما زالت تحظى بحضور في العمل الجماهيري والسياسي والمقاوم، وفي استطلاعات الرأي، والتمثيل في الانتخابات الطلابية والنقابية. في حين يشكّل البقية حمولة زائدة لا دور لها سوى توفير غطاء للقيادة الحالية لمنظمّة التحرير، عبر فصائل استُنسخ بعضها في اللجنة التنفيذية للمنظّمة، أو إصدار البيانات في المناسبات الوطنية التي تشيد فيها بفعل الآخرين أو تستنكره. هذا التشرذم لا يمكن أن يستمرّ، إذ على هذه الفصائل، احتراماً لتاريخها، أن تعيد تنظيم نفسها، ليبقي منها ما هو فاعل وقادر تنظيمياً وسياسياً وفكرياً على إعادة إنتاج بنيته وفعله.
نفضت عملية طوفان الأقصى الغبار الذي تراكم حول القضية الفلسطينية، وأعادت إلى الأذهان جذور القضية الممتدّة منذ ما قبل النكبة (1948). لكن بقدر ما ولّدت عملية طوفان الأقصى من فُرص، فإن حرب الإبادة الجماعية التي شنّها الاحتلال على الشعب الفلسطيني ولّدت هي الأخرى مخاطر تهدّد بتصفية القضية، من خلال ما يُدعى اليوم التالي للحرب، وإقامة إدارة تابعة للاحتلال، والتهجير، وإرسال قوات عربية أو دولية تتولى نزع سلاح المقاومة ومطاردتها، والسعي من جديد إلى إحياء عملية التطبيع العربي الرسمية. ويعزّز من هذه المخاطر المشاركة الكاملة للولايات المتحدة في الحرب، وعجز النظام الرسمي العربي، والحديث الدائم عن إعادة ترتيب خريطة الإقليم، وسيطرة الكيان الصهيوني عليه، ودفع السلطة الفلسطينية إلى مزيد من التنازلات، وتحويلها أداة مرتبطة بالاحتلال بشكل كامل، أو إنهاء دورها، وأن يُستبدل بها كانتونات محلّية تُكرّر سيناريو روابط القرى. ويترافق مع ذلك استمرار حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، وعدم وجود رغبة حقيقية في تجاوزها.
منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، على أن ذلك مرهون بإعادة بنائها، ومشاركة الكلّ الفلسطيني فيها، وتحويلها منظّمة ديمقراطية، سواء كان ذلك بالانتخاب، حين يمكن ذلك، أو بالتوافق حين يتعذّر إجراء الانتخابات، ولتكون مرحلة أولى يمكن من خلالها إحياء قيادة فلسطينية موحّدة، إلى حين تأسيس مجلس وطني فلسطيني جديد، يضم الفصائل الرئيسة، وشخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة والنضال.

ثمّة حاجة إلى استراتيجية فلسطينية تتجاوز سلبيات الماضي، وصعوبات الحاضر، وترنو إلى المستقبل الواعد بالحرية

ثمّة حاجة إلى استراتيجية فلسطينية تتجاوز سلبيات الماضي، وصعوبات الحاضر، وترنو إلى المستقبل الواعد بالحرية. وترتكز هذه الاستراتيجية على ركائز عدة، أولاها الصمود في فلسطين المحتلة كلّها، في الضفة الغربية وغزّة وفلسطين المحتلة منذ عام 1948، ووحدة الشعب الفلسطيني، الصامد في أرض فلسطين، والمقاوم للاحتلال والتهجير والاستيطان والأبارتهايد والضمّ، وما يسمّونه بـ"مخطّطات اليوم التالي"، والمتمسّك بثوابته الوطنية وروايته التاريخية. ويجب دعم هذا الصمود من الفلسطينيين في الخارج، والشعوب العربية والحرّة، والنظام العربي الرسمي أيضاً، عبر تأسيس شبكات محلّية وعربية وعالمية لدعم صمود الشعب الفلسطيني في نضاله وفي حياته اليومية.
الركيزة الثانية هي النضال من أجل عزل الكيان الصهيوني، ومحاربة نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري، وتأسيس أوسع شبكة عالمية لتحقيق ذلك، ووقف العلاقات الاقتصادية معه، أو تزويده بالسلاح، وتصعيد الحراك في صفوف الشباب، والتحالف مع الأصدقاء في العالم كلّه، وتشكيل جبهات وتحالفات مساندة لنضال الشعب الفلسطيني، وتعزيز صموده، ومقاومة التطبيع في العالم العربي. ويندرج في هذا السياق واجب ملقى على فلسطينيي الشتات، بتوحيد قواهم، ونبذ الفرقة في صفوفهم، وتوحيد أهدافهم، وإعادة بناء منظّماتهم الشعبية، بعيداً عن الجدل الذي ساد حول حلول مفترضة للقضية الفلسطينية.
وثالثة هذه الركائز إنهاء الجدل حول حلّ الدولة وحلّ الدولتَين، وما يتفرّع منهما من فِكَر، مثل فكرة الدولة ثنائية القومية، أو دولتان في وطن واحد، أو دولة لشعبَين. فالمسألة هنا ليست موضوعاً نظرياً يتعلّق بفنّ الممكن وشروط العدالة ومُثلها العليا، إذ إن أي حلّ منها يحتاج إلى نضال مستدام، بأساليب تختلف عن التي مورست سابقاً، وبشروط موضوعية لازمة لإنجازه. فمن الأهمية بمكان زيادة عدد الدول التي تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، أو تلك التي تنادي بحلّ الدولتين، لكن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا عبر دحر الاحتلال، وتفكيك الاستيطان. والعمل بهذا الاتجاه يحوّل ما هو مُختلَف عليه من سلبي إلى إيجابي، وما عدا ذلك فليس سوى ديباجة ممجوجة تتكرّر في البيانات والمؤتمرات والمفاوضات العبثية. حلّ الدولة الواحدة لا يمكن تحقيقه من دون تفكيك يهودية الدولة، وإنهاء الصهيونية بوصفها فكرة عنصرية، والنضال في هذا الاتجاه. كما العمل لدحر الاحتلال، وتفكيك الاستيطان، يساهمان في تقدّم الشعب الفلسطيني نحو الحرية والعدالة. وكلّما تقدمنا خطوة، راكمنا عناصر قوتنا، واقتربنا من تحقيق أهدافنا. وبعد ذلك، يقرر الشعب الفلسطيني وحده مصيره وشكل دولته بإرادته الحرة، وما عدا ذلك هو مراوحة في المكان وشراء للوهم.

نفض "طوفان الأقصى" الغبار الذي تراكم حول القضية الفلسطينية، وأعاد إلى الأذهان جذور القضية منذ ما قبل النكبة

وعن الركيزة الرابعة: في السابق، كان ثمّة تركيز واضح في حلقة مركزية واحدة للنضال الفلسطيني، تمثّلت في الشعار القائل إن الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وتأخّرت الحركة الوطنية الفلسطينية في الانتباه إلى أشكال النضال الأخرى، لذا يجب أن يرتكز النضال الفلسطيني إلى حلقات مركزية متعدّدة في الوقت نفسه، تكمّل كلّ منها الأخرى، ولا يشكّل وجودها مجتمعة أي خلاف أو تناقض، وتحدَّد أولية أي منها بحسب الوقت والمكان والظرف السياسي. ويمكن ممارسة النضال بأكثر من شكل في الوقت ذاته، ويشمل هذا أشكال المقاومة المتعدّدة، والهبّات الشعبية، والنضال الجماهيري، كما هو النضال ضدّ نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري، وعزل الكيان الصهيوني على المستويين، العربي والدولي، وبناء المؤسّسات اللازمة، والمبادرات التطوعية لتعبئة جهود الشعب الفلسطيني وتوحيدها في المجالات كلّها (مقاومة، صحّة، تعليم، اقتصاد، مقاطعة، تنمية، إعمار، وحدة الجاليات، دعم الخارج للداخل، إعادة بناء المنظمات الشعبية).
وتحتاج هذه الاستراتيجية الوطنية إلى أداة تنظيمية تقودها وتوجهها، في ظلّ ترهّل أغلب مكوّنات الحركة الوطنية الحالية. ومن هنا، تأتي الدعوة إلى ملتقى وطني يتشكّل عبر تعاون أطر جماهيرية، تستند إلى الحراكات الشعبية، وتجمّعات الشعب الفلسطيني، والنقابات الجماهيرية المهنية، والشخصيات الوطنية المناضلة، والنشطاء من الشباب، والقوى السياسية (الفصائل) ذات الحضور الفاعل، ضمن إطار ديمقراطي مستقلّ وتعدّدي على المستوى الفكري والسياسي، متّفق على الأهداف والوسائل والأدوات، ويشكّل أداة للوحدة، وينبذ الانقسام، ويتمسّك بمنظمّة التحرير، ويسعى إلى إعادة بنائها. ولعلّ مبادرة المؤتمر الوطني الفلسطيني، وما يماثله من حراكات شعبية في الداخل والخارج، خطوة على هذا الطريق، وهو طريق نضالي يسير فيه بالتوازي إعادة بناء منظمّة التحرير مع إعادة بناء تيار وطني ديمقراطي تعدّدي، يسعى لأن يشكّل نواة لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، ويصلب من بنيتها وعودها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows