
يخوض التشكيلي وكاتب القصة، الأردني محمد الجالوس (وُلِد في عمّان وينحدر من عائلة فلسطينية هجّرت من قرية قزازة في قضاء الرملة) تجربة الكتابة الروائية، وصدرت له، قبل أيام عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، روايته الأولى "طفولة ناقصة". جاء في الإهداء المقدّم إلى والديه الراحلَين: "كانت طفولتي مغموسة بالهمّ والتعب، وكانت أيضاً الكنز الذي صنع منّي ومن أبناء جيلي ما نحن عليه اليوم".
يمكن للمتلقّي اعتبار النصّ مزيجاً سردياً متناغماً تجلّت فيه السيرة الذاتية للكاتب في مرحلة الطفولة والصبا المبكّر، باعتبار الطفولة، كما يراها جبرا إبراهيم جبرا، "البئر الأولى" التي تتشكّل فيها ملامح مشاعرنا الأساسية من حبّ وتعلّق وحنين ودهشة وفضول، وهي المحرّك الأساس في تكوين شخصية الفرد كذلك. تنطوي الرواية على السيرة الغيرية لشخصيات مؤثّرة شكّلت هيكل النص الروائي، متعدّد مستويات السرد، وإن كان أسلوب الحكواتي الأبرز، من ناحية بساطة اللغة، وسلاسة السرد الذي لم يخلُ من عنصر التشويق.
برع الجالوس (على نحو خاصّ) في توثيق سيرة المخيّم الذي أقام فيه طويلاً، ما أتاح له التوغّل عميقاً في عوالمه، مستعيناً بذاكرة بصرية دقيقة لفنّان تشكيلي يتقن التقاط جماليات الأمكنة، وبثّ الروح فيها بضربة ريشة. وظلّ المخيّم حاضراً حيّاً نابضاً باعتباره الشخصية الرئيسة المستقلّة الكامنة في ثنايا النصّ، التي تلخّص حكايا سائر الشخصيات، لأنها الفضاء والخلفية للأحداث والمواقف، وقد انهمك محمّد في هذا الفضاء السردي المحتشد بالشخصيات والأمكنة والأحداث المصيرية والتحوّلات الكبرى التي عصفت بالمنطقة، وذهب في مغامرته بعيداً وعميقاً في نبش الذكريات حتى أقصاها، مستحضراً عوالم طفولته في مشاهد متلاحقة غير مرتبطة بترتيب زمني محدّد.
يعيدنا الجالوس في هذا النصّ إلى مرحلة الستينيّات، وإلى مخيّم الوحدات جنوب شرقي العاصمة عمّان، الذي أُنشئ في 1968 خدمةً لفلسطينيين لجؤوا إلى الأردن عام 1967. يصف الكاتب بحِرفية أجواء المخيّم الأكبر في الكثافة السكّانية، ويأخذنا في رحلة الحنين إلى الأزقة والحارات وسوق الخضراوات والمدرسة الحكومية ومركز الإغاثة، ويفرد مساحةً كبيرةً من النصّ لسرد حكاية الغجر في مخيّمهم المحاذي لمخيّم الوحدات، والغوص في عوالم الغرائبية من خلال الإضاءة على حكايات شخصيات غجرية واقعية، تركت أثراً غائراً في روح الكاتب/ الفنّان مثل "ناعم بس" عاشق القطط، الذي تعانده الحياة وتبخل عليه، وتزدريه أحياناً، وقد أضاع محفظته الجلدية، والمبلغ النقدي الضئيل الذي يشكّل ثروةً بالنسبة إليه في سوق الخضرة، وعانى طويلاً الشكّ في الآخرين قبل عثوره عليها. وزوجته جواهر الراقصة المثيرة التي تعتاش من إحياء الأعراس، وتقتصد المال لتحقيق حلمها في الانتقال إلى وادي الحدّادة، حيث البيوت من الإسمنت، وهي متباعدة نسبياً، أملاً في صعود اجتماعي، وخلاصاً من حياة المخيّم الضاغطة ببيوت الزنك والخيام المتلاصقة، حيث لا خصوصية ولا أسرار مكتومة (لأن الصفيح لا يكتم الأسرار)، وشقيقة ناعم "فريدة"، المرأة الوحيدة الغامضة غريبة الأطوار التي يتجنّبها الجميع، و"أمينة" العروس التي حاول الصغار الأشقياء انتهاك ليلة زفافها، والتلصّص، قبل أن يفرّوا هاربين وقد انكشف أمرهم.
تغلغل الكاتب في عوالم الغجر التي أثارت فضوله طويلاً. الأزياء والعادات والألوان والمهن والعلاقات ومكانة الأنثى/ مصدر الدخل والرغبة في الانزواء والإقامة في الهامش، لأنهم منعزلون بطبعهم، ولا يسعون إلى أي صيغة للانصهار مع المجموع. كما حضرت تداعيات التغريبة الفلسطينية في مفاصل النصّ، حين سرد الكاتب حكاية الشتات ومعاناة الشعب الفلسطيني إثر هزيمة 1967، وتبعاتها الخطيرة على المستويات، المعيشي والنفسي والإنساني، على شعب تعرّض للتهجير والشتات، وفرض عليه البدء في رحلة الحياة ثانيةً من نقطة الصفر.
تمكّن الجالوس في "طفولة ناقصة" من تقديم لوحة ملحمية فسيفسائية، تحكي عذابات جيل بأكمله، متكئاً على ذاكرة حيّة نابضة غير متحرّرة من الماضي، ولعلّ سرد هذه السيرة الشائقة بمثابة وسيلة للتصالح مع أطياف وأشباح وذكريات ما زالت مقيمةً في رأس الكاتب المزدحم بالحكايات.

Related News
