القائد والبروباغندا: كيف يُقاد الجمهور اليمني؟
Civil
9 hours ago
share

بعد أن تناولنا في المقال السابق سلوك الفرد داخل الحشد، وكيف تتحول الجماهير إلى كيان عاطفي لا عقلاني قابل للتأثر، نتحدث في هذا المقال عن الطرف الآخر في المعادلة القائد والبروباغندا.

القائد ليس مجرد شخصية مركزية، بل هو تجسيد للمشروع السياسي بكل رمزيته، وتُسهم البروباغندا في تشكيل وعي الجماهير من حوله، ومنحه شرعية رمزية تُبرّر سلطته وتُطيل من عمرها، حتى وإن لم تكن هذه السلطة في خدمة الجماهير نفسها.

اشتباك الخطاب الديني والسياسي

في مجتمع محافظ كاليمن، يمثّل الدين ركيزة محورية في تشكيل وعي الجماهير وتوجيه سلوكها، لذا تسعى قيادات الأطراف المختلفة إلى مزج الخطاب السياسي بالديني، بوصفه أداة فعالة لبناء القناعات وتوجيه الولاءات.

ويتكوّن هذا الخطاب من ثلاثة عناصر رئيسية:

1– توظيف المقدس:

تُستخدم النصوص الدينية، من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وصولا إلى الأعراف والتقاليد، بما يخدم الأجندة السياسية، وقد بلغ هذا التوظيف ذروته خلال سنوات الحرب الحالية، من خلال استدعاء مفاهيم مثل “الجهاد”، “الشهادة”، “الدفاع عن الأرض والعِرض والدين”، و”نُصرة الحق”، بهدف تبرير المعارك وتحفيز التعبئة وشيطنة الخصوم.

ويكفي أن تستمع إلى خطابات زعيم الحوثيين، أو بعض قيادات “الشرعية” كطارق صالح أو أبو زرعة المحرمي، لتدرك كيف يُستدعى المقدّس لخدمة السردية السياسية، بما يمنح الخطاب سلطة أخلاقية ودينية تجعل معارضته أمرًا محفوفًا بالمخاطر.

2– صياغة السرديات:

يُعاد تشكيل الواقع في وعي الجماهير من خلال سرديات مبسطة تفسّر الأحداث، وتحدّد الهوية وتُبرّر السلوك الجمعي؛إذ لكل طرف روايته التي تُسقط المسؤولية على خصومه وتُقدّم قادته بوصفهم المنقذين وينتج عن هذه السرديات إطارا ذهنيا يسهّل على الأفراد فهم ما يجري والقبول به.

وفي هذا السياق، يشير عالم النفس اللبناني مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” إلى أن القائد في المجتمعات المتخلّفة هو من يمنح الجماهير شعورا بالقوة والانتماء، ويُقدّم لهم صورة مبسطة للعالم، تجعلهم أكثر استعدادا للامتثال والانقياد.

3– استحضار التاريخ والرموز:

تُغرق الخطابات السياسية والدينية في اليمن بالماضي، سواء من باب التفاخر بالأمجاد أو اجترار المظلومية، ويتم ربط ذلك بالواقع الراهن لإضفاء شرعية على الصراع وتحفيز الولاء.

خلال سنوات الحرب، تم استدعاء رموز وشخصيات تاريخية ودينية عديدة: فمن جانب المؤيدين للشرعية برزت أسماء مثل الهمداني، نشوان الحميري، الشوكاني، وابن الأمير، في حين استحضر الحوثيون رموزا أخرى مثل يحيى الهادي، ابن حمزة، الأَشتر، ويحيى حميد الدين، وكأن هذه الشخصيات قد بُعثت من جديد في الوعي الجمعي، لتلعب دورا تعبويا يُلهم الحماسة ويعزز الاصطفاف.

 

آليات التأثير الجماهيري

إلى جانب الخطاب السياسي والديني، يُوظّف القادة مجموعة من الآليات النفسية التي تخدم البروباغندا، من أبرزها: اللغة، الرموز، الشعارات، والمشاعر الغريزية، بهدف تعظيم التأثير على الجماهير.

اللغة المُختارة:

رغم تفاوت الأطراف في الحفاظ على خطاب موحّد، إلا أن القاسم المشترك بينها هو العناية باختيار المفردات والتوصيفات التي تستدرّ التعاطف وتُثبت أحقية مشروعها.

على سبيل المثال، اعتمد الحوثيون منذ بداية الحرب خطابا موحّدا يصوّرهم كمقاومة ضد “العدوان والاحتلال”، ويصنّف خصومهم تحت وصف “المرتزقة”. في المقابل، افتقرت الأطراف المناهضة لهم إلى سردية ثابتة، فتنوّعت توصيفاتهم للحوثيين بين “مليشيات إيرانية”، “مليشيات انقلابية”، “جماعة إرهابية”، وغيرها، ما أضعف وضوح خطابهم وتأثيره.

وفي هذا السياق، يشير حجازي إلى أن البروباغندا تعتمد على شعارات بسيطة ومُكرّرة تخاطب العاطفة لا العقل، وتركّز على تضخيم الإنجازات والتقليل من التحديات، لتكريس الانصياع وتثبيت شرعية القائد في وجدان الجماهير.

قوة الرموز البصرية والسمعية: 

تكمن قوة الرموز في قدرتها على تجاوز اللغة والولوج إلى اللاوعي الجمعي؛ فهي تُفعّل الانتماء، وتُغذّي الهوية، وتختصر سرديات كاملة في ألوان أو شعارات أو ألحان؛ فمن خلال الأعلام، الشارات، الألوان، الأناشيد، تُبنى هوية جماعية راسخة يصعب زعزعتها.

لكل طرف في الصراع رموزه الخاصة؛ فعلى سبيل المثال، لدى الحوثيين شعارهم الصوتي والبصري المعروف بـ”الصرخة”، والذي يُطبع على الجدران، ويُرفع على اللافتات، ويُعامل كراية تمثّل الجماعة جنبا إلى جنب، اللون الأخضر الذي يُغرق تفاصيل الحياة اليومية في مناطق سيطرتهم: من الكوفية إلى المناسبات العامة، مرورا بطلاء القباب والأبواب.

تخلق هذه الرموز لدى أنصار الجماعة شعورا بالتماهي والانتماء، لكنها تُثير في المقابل نفورا عميقا لدى المعارضين، الذين يرون فيها تجسيدا لمعاناتهم وبؤس واقعهم منذ سقوط الدولة وسيطرة الجماعة على العاصمة.

في المقابل، لا تمتلك الأطراف المنضوية تحت “الشرعية” رموزا موحّدة، رغم اتفاقها على العداء للحوثيين؛ فلكل طرف رموزه، وشعاراته، وأناشيده، وحتى ألوانه الخاصة؛ فـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” مثلا يمتلك علما مختلفا، ونشيدا خاصا، ورمزيات تعكس مشروعا سياسيا منفصلا، بل وعلى الضد من بنية الدولة القائمة.

من الجدير ذكره هنا، أن المواطنين العاديين في مناطق سيطرة الحوثيين يتخذون النشيد الوطني كملاذ رمزي، حيث يحضر في حفلات الأعراس والتخرّج بوصفه رمزا للجمهورية والهوية الوطنية، ورسالة اعتراض ضمنية على مشروع الجماعة ومحاولات طمس النظام الجمهوري.

التكرار:

تُعد آلية التكرار من أكثر أدوات البروباغندا فاعلية في ترسيخ الأفكار وتطبيعها داخل الوعي الجمعي، حيث يتم تكرار الشعارات والمفاهيم الرئيسة باستمرار عبر مختلف المنابر: المساجد، وسائل الإعلام، المدارس، الجدران، والتجمّعات العامة، حتى تصبح مألوفة وبديهية، يُسلَّم بها تلقائيا، بغض النظر عن منطقيتها أو صدقيّتها.

في مناطق سيطرة الحوثيين، يُفرَض على الطلاب ترديد “الصرخة”، ويُطبع الشعار على الجدران، وتُردَّد عباراته في المساجد والفعاليات العامة، في محاولة لصياغة وعي ديني–سياسي منسجم مع سردية الجماعة.

أما في الجنوب، فيعتمد المجلس الانتقالي الجنوبي ذات الأسلوب: يُرفع علمه الخاص فوق المباني الرسمية، وتُطبع شعاراته على زيّ رجال الأمن، وتُدوَّن على الجدران في الأماكن العامة، في تجسيد واضح لفرض الهُوية السياسية الانفصالية عبر التكرار البصري والرمزي.

اللعب على الخوف والتهديد:

يُعاد إنتاج خطاب المؤامرة كلما واجهت الجماعة مأزقا سياسيا أو شعبيا، ويتجلّى هذا النمط بوضوح في خطاب المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يلوذ بنظرية “المؤامرة” كلما تعاظم الغضب الشعبي من فشل الأداء، حيث يُستدعى خطر “الاحتلال”، أو “المخططات الإخوانية” لتبرير الإخفاقات وتوحيد الجماهير خلف القيادة تحت وهم التهديد الخارجي.

وحول هذا النمط السلطوي في الخطاب، يقول مصطفى حجازي إن الخطاب التسلّطي يعمل على تضخيم التهديدات لتجميد الوعي النقدي، وتحويل الجماهير إلى أدوات منفذّة لإرادة الحاكم.

الوعد بالأمل والنجاة:

رغم إخفاق جميع الأطراف اليمنية في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لأكثر من عقد، إلا أنها تبرع في تسويق وعود الخلاص، إذ تتحدث عن “مكافحة الفساد” وهي غارقة فيه، وعن “التنمية” في الوقت الذي تُهدر فيه الموارد بعيدا عن الناس، وعن “استعادة الدولة” أو “تحرير البلاد” بينما بالكاد تحافظ على نفوذها في مناطق سيطرتها وقرارها مرهون بيد الخارج.

هذا الخطاب – كما تقتضيه البروباغندا – لا يستند إلى الواقع، بل إلى حاجة الجماهير للأمل، مهما كانت التجربة قاسية، إنه يمنح معنى للتضحية ويبرّر الألم ويُطيل عمر الانتظار ولو دون أفق.

 

الحشد عبر الإعلام وتنوع الخطاب

ضمن أدوات الحشد والتعبئة، يبرز دور الإعلام والخطاب بمختلف أنواعه لتشكّيل الوعي الجمعي وتوجهه.

الإعلام كأداة تعبئة:

يُنظر إلى الإعلام غالبا كسلاح بيد الأطراف المتنازعة، يُستخدم لترسيخ الرواية الخاصة وتشويه صورة الخصوم بما يعيد تشكيل الرأي العام لخدمة أجندات محددة.

في كتابه الشهير “الرأي العام”، يتحدث المفكر الأمريكي والتر ليبمان عن “الصورة الذهنية” التي يُنتجها الإعلام ويُروّج لها، لتصبح أساسا تتشكل عليه مواقف الولاء والعداء لدى الجماهير.

في السياق المحلي، تلعب البروباغندا دورا كبيرا في إعادة تشكيل الواقع داخل أذهان الجماهير من خلال صور نمطية مبسطة مثل: “العدو، البطل، المؤامرة”، مما يسهل توجيه الرأي العام نحو مواقف محددة ونأخذ ثلاثة نماذج للخطابات:

الخطاب الطائفي:

أفرزت الحرب خطابا ذا طابع طائفي، يعيد إحياء الانقسام المذهبي بين الزيدية والشافعية كأداة للحشد والتعبئة، وذلك من خلال تضخيم الفروقات المذهبية وإبرازها، ما أسهم في ترسيخ جدار نفسي بين أبناء الوطن الواحد.

الخطاب القومي:

بدأ الخطاب القومي يتبلور من خلال حراك فكري حديث يُعرف بـ”الأقيال”، يستدعي أمجاد اليمن القديم قبل الإسلام (مثل سبأ وحِمْيَر) كوسيلة لتحفيز الوعي الوطني في مواجهة ما يُعتبر تهديدا وجوديا يُجسّده مفهوم “الهاشمية السياسية”. ومع ذلك، يلقى هذا الخطاب انتقادات لتوظيفه الأنساب كردة فعل، مما يكرّس نمطا من الصراع القديم الذي كان قائما على ثنائية القحطانية مقابل العدنانية.

الخطاب الجهادي:

يُستخدم هذا الخطاب بشكل مباشر في سياق التعبئة القتالية، حيث تُستدعى نصوص دينية بهدف شرعنة القتال، وتُقدَّم وعود بالجنة لمن يشارك ويُقتل في المعارك.

 

مقارنة التعبئة لدى مختلف الأطراف

تمارس مختلف القوى أساليب تعبئة جماهيرية متباينة تعكس خلفياتها الأيديولوجية ومشاريعها السياسية، ففي صنعاء والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تتخذ التعبئة طابعا دينيا-عقائديا عبر الخطاب الزيدي، وتُغذّى بأنشطة موجهة كالمسيرات، والوقفات، و”الدورات الثقافية”، إلى جانب الإعلام الذي يركّز على مفاهيم مثل “الصمود”، و”الجهاد”، و”مقاومة العدوان”.

أما في عدن ومحافظات الجنوب الواقعة تحت سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، فتغلب على التعبئة النبرة المناطقية والانفصالية، مع استدعاء سردية ما يُسمّى “هوية الجنوب العربي” والدعوة إلى استعادة “الدولة الجنوبية”.

وفي المقابل، تبدو التعبئة في مأرب وتعز، الخاضعتين للحكومة المعترف بها دوليا، مزيجا من الخطاب الجمهوري والوطني، ومقاومة المشروع الحوثي، مع تداخل الولاءات القبلية (خصوصا في مأرب).

يعكس الواقع المعقد حقيقة أن القائد، أيّا كان موقعه، لا يكتفي بمجرد إصدار الأوامر، بل يضطلع بدور في “هندسة” وعي الجماهير عبر أدوات البروباغندا المتنوعة لتحقيق أهداف قد لا تصبّ بالضرورة في صالحها على المدى البعيد.

في المقال الثالث، نغوص في السؤال الأكثر إيلاما: “كيف تتأقلم الجماهير مع الحرب؟” لنفهم كيف ينتقل المجتمع من الصدمة إلى التبلّد، ومن الغضب إلى التطبيع مع الدمار.

The post القائد والبروباغندا: كيف يُقاد الجمهور اليمني؟ appeared first on يمن مونيتور.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows