مصافي عدن.. كنز السيادة العالق بين القرار والتنفيذ
Party
8 hours ago
share

 

 

في مدينة تغفو على أطلال المجد وتستيقظ على أزمات الوقود والانقطاعات المتكررة، تقف مصافي عدن كأكبر شاهدٍ صامت على الإهمال والتعطيل المتعمّد، بعد أن تحولت من منشأة كانت تضخ الحياة في شرايين اليمن، إلى جسد بلا روح.

 

لم تكن مصافي عدن مجرد أبنية قديمة أو آلاتٍ صدئة أنهكها الزمن، بل كانت رمزًا لعصرٍ كانت فيه عدن حاضرةً في قلب المشهد الإقليمي كمركز طاقة وازدهار، قبل أن تتوارى اليوم خلف عتمة المولدات وضجيج السوق السوداء وجشع السماسرة.

 

 

من ذاكرة المصفاة

 

تأسست مصافي عدن في خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1954، لتكون أول مصفاة نفطية في شبه الجزيرة العربية، ضمن مشروع بريطاني استراتيجي لتزويد السوق الإقليمية بالوقود وتكرير النفط الخام.

 

ومع بداية الستينيات، تحوّلت المصفاة إلى واحدة من أهم الأصول الاقتصادية للدولة، حيث لعبت دورًا محوريًا في دعم الميزانية العامة، وتوفير المشتقات النفطية للسوق المحلية، وتصدير جزء منها إلى دول الجوار، ما عزّز مكانة عدن كميناء إقليمي ومركز طاقة استراتيجي.

 

وقد شكّلت المصفاة، لعقود، القلب النابض لاقتصاد عدن، وعامودًا فقريًا للبنية التحتية في البلاد، وساهمت في بناء شبكة الكهرباء، وتوفير وظائف مباشرة وغير مباشرة لآلاف العاملين.

 

لكن مع اندلاع الحرب مؤخرا، وتراجع دور الدولة، أُهملت المصفاة تدريجيًا، حتى وصلت إلى مرحلة التوقف الكامل، لتُضاف إلى قائمة طويلة من المشاريع السيادية المعطلة، التي كان يمكن أن تكون اليوم سندًا للاقتصاد الوطني في لحظة الانهيار.

 

مؤشرات التحرك

 

ومع أولى مؤشرات التحرك الحكومي لإعادة تشغيل هذه المنشأة الحيوية، عاد الحلم يطرق أبواب الأمل، وارتفعت التطلعات بإحياء الشريان الصناعي الذي كان يمنح عدن نبضها السيادي، ويعيد لليمن موقعه على خارطة الطاقة الإقليمية والاقتصاد المستقر.

 

لكن الحقيقة المؤلمة، كما يراها كثيرون، أن تعطيل المصفاة لم يكن ناتجًا عن خلل فني أو عجز تقني، بل كان قرارًا سياسيًا متعمدًا، فتح أبواب الفساد، ومهّد الطريق أمام متنفذين وتجار السوق السوداء للعبث بالقطاع النفطي على حساب دولة تنهار وشعبٍ يرزح تحت وطأة المعاناة.

 

نزيف الطاقة..

 

توقف مصافي عدن لم يُسهم فقط في ضرب قطاع الطاقة، بل أطاح بمنظومة اقتصادية متكاملة، كانت تؤمّن الوقود، وتدعم الكهرباء، وتغذي خزينة الدولة بعوائد ضخمة. ومنذ توقفها، دخلت البلاد دوامة من الاعتماد الكلي على الاستيراد، ما جعل القرار الاقتصادي مرهونًا برغبة التجار ووسطاء السوق.

 

وأصبحت الحكومة مضطرة لاستيراد كامل احتياجات البلاد من المشتقات النفطية، ما تسبب في نزيف يومي للعملة الصعبة، وساهم في تآكل احتياطي النقد الأجنبي، وفتح الأبواب أمام تلاعب الشركات الوسيطة بالأسعار والمواصفات.

 

في المقابل، يتحمل المواطن العبء الأكبر؛ إذ يواجه ارتفاعًا مستمرًا في أسعار الوقود، وانقطاعات متكررة في التيار الكهربائي، وانهيارًا في مستوى الخدمات الأساسية المرتبطة بالطاقة. كل ذلك نتيجة مباشرة لتوقف المصفاة.

 

وتجاوزت الخسائر الجانب الاقتصادي، إذ فقدت الدولة واحدة من أهم أدوات سيادتها، بينما تمددت شبكات الفساد والتهريب، وتحولت سوق الطاقة إلى ساحة مفتوحة لعصابات تُديرها أيادٍ خفية بعيدًا عن الرقابة الرسمية.

 

وفي وقتٍ تتآكل فيه الموارد وتتراجع الإيرادات، تبقى المصفاة المغلقة شاهدًا على الفرص الضائعة، والقرارات المؤجلة، والعجز عن استثمار منشأةٍ كانت قادرة على توفير ملايين الدولارات شهريًا لو أُعيد تشغيلها.

 

رؤية اقتصادية

 

يرى المحلل الاقتصادي توفيق صالح أن إعادة تشغيل مصافي عدن ليست خطوة فنية فحسب، بل قرار استراتيجي سيكون له تأثير بالغ على الاقتصاد الوطني وإعادة ضبط سوق الطاقة.

 

وقال صالح، في تصريح خاص لـ"الصحوة نت"، إن تشغيل المصفاة سيوفر احتياجات السوق المحلية من الوقود، ما سيقلص فاتورة الاستيراد بشكل كبير، ويخفف الضغط على احتياطي العملة الأجنبية، وبالتالي يحقق استقرارًا في سعر الصرف.

 

وأشار إلى أن إعادة تشغيل المصفاة ستخلق فرص عمل واسعة، وتُعيد توظيف الكوادر الفنية، وتُنعش القطاعات الخدمية المرتبطة بالمصفاة، مما يُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد داخليًا، وتقليل الاعتماد على الخارج.

 

وأضاف: "بيع المشتقات النفطية مباشرة عبر الدولة، بعيدًا عن الوسطاء، سيوفر عوائد ضخمة للخزينة، ويغلق منافذ الفساد والتهريب التي لطالما استنزفت المال العام لصالح جيوب متنفذين في السوق".

 

وختم صالح تصريحه بالتأكيد على أن تشغيل مصافي عدن لم يعد حلمًا تقنيًا، بل ضرورة وطنية، تتطلب إرادة سياسية صادقة، والتفافًا شعبيًا، لاستعادة واحدة من أهم ركائز الاستقرار والسيادة الاقتصادية في البلاد.

 

 

عدن تنتظر القرار..

 

في ختام هذا المشهد، لا تبدو عودة مصافي عدن للعمل مجرد مسألة تشغيل منشأة معطلة، بل اختبارًا حقيقيًا لإرادة السياسيين والتزامهم تجاه شعب أنهكته الأزمات ويبحث عن بارقة أمل.

 

إن قرار إعادة تشغيل المصفاة هو قرار سيادي بامتياز، يحمل في طيّاته فرصة لإنقاذ الاقتصاد، واستعادة ثقة المواطنين، وتثبيت دعائم الدولة في زمن التراجع والانهيار.

 

وفي انتظار لحظة القرار، تبقى المصفاة رمزًا لعدن التي ما تزال تنتظر أن تستعيد نبضها، لا على وقع الوعود، بل عبر قرارات تعيد الحياة إلى كنوز السيادة المعلّقة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows