
يعاني الاقتصاد العراقي من تحديات متصاعدة تتعلّق بتراجع النمو غير النفطي، واتّساع العجز المالي، وضعف قدرة الدولة على تنويع مواردها بعيداً عن الاعتماد شبه الكامل على الإيرادات النفطية. وقد جاء التحذير الأخير لصندوق النقد الدولي من تفاقم العجز المالي على المدى المتوسط، ليؤكد مجدّداً هشاشة البنية الاقتصادية للعراق، محذراً من تداعيات الاستمرار في نهج التوسع المالي دون إصلاحات هيكلية حقيقية.
واستند تحذير الصندوق إلى معطيات دقيقة حول تراجع النمو غير النفطي من مستويات مرتفعة نسبياً إلى نحو 2.5% فقط في عام 2024، وتزايد المخاطر المرتبطة بعجز الموازنة العامة، وارتفاع سعر التعادل المالي، وتراكم المتأخرات. ورصد الصندوق في تقريره الصادر نهاية الأسبوع الماضي، عدداً من الاختلالات التي تستدعي تدخلاً عاجلاً، شملت ضعف الاستثمار، وتباطؤ الإصلاحات في قطاع الطاقة، وهشاشة النظام المصرفي، وغياب منظومة مالية وإدارية قادرة على ضبط الإنفاق وتعزيز الإيرادات.
وقدّم الصندوق حزمة من التوصيات الفنية لتصحيح المسار المالي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتحسين كفاءة الإنفاق، مع تأكيد ضرورة إصلاح منظومة التقاعد، وترشيد التوظيف، وتطوير القطاع المصرفي، والحد من الاعتماد على الدعم العشوائي، مشدداً على ضرورة مكافحة الفساد، وتحسين الشفافية المالية، وتوفير بيانات دقيقة تُسهم في بناء قرارات اقتصادية رشيدة.
وفي مقابل توصيات صندوق النقد الدولي، تؤكد الحكومة العراقية أن سياستها الإصلاحية الحالية لا تبتعد عن الخطوط العامة التي يوصي بها الصندوق، بل تتقاطع معها في العديد من الجوانب. وقال المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، إن البرنامج الحكومي المصادق عليه من مجلس النواب، يشكّل دليلاً إصلاحياً جرى اعتماده خارطةَ طريق، وبدأت الحكومة بتنفيذه فعلياً، رغم التحديات الثقيلة المتراكمة من سنوات طويلة.
وأوضح صالح، لـ"العربي الجديد"، أن التركة الاجتماعية والاقتصادية التي واجهت الحكومة كانت كبيرة، ومنها المشاريع المتوقفة، وآلاف العقود المؤقتة التي تحولت إلى وظائف دائمة، وبرامج مكافحة الفقر التي تطلبت شمول نحو مليوني عائلة ضمن موازنة الرعاية الاجتماعية. وأضاف أن الحكومة اتجهت نحو تنشيط الاقتصاد غير النفطي، من خلال إطلاق عشرات المشاريع الخدمية الكبرى، مثل بناء مليون وحدة سكنية، والمئات من المدارس والمستشفيات، وشبكات الطرق، والمياه، والكهرباء.
وأشار إلى، أن الحكومة أعلنت عن برنامج الشراكة مع القطاع الخاص، خاصّة في مجالَي الصناعة والطاقة، وقدمت له الضمانات السيادية المطلوبة لتحفيز استثمارات تكنولوجية متقدمة، كما استمرت في دعم القطاع الزراعي، ما انعكس في تحقيق أمن غذائي مقبول، خصوصاً في إنتاج محاصيل الحبوب. وقال المستشار المالي لرئيس الوزراء إنّ هذه السياسات أسهمت في خفض معدل البطالة من 17% إلى 13%، والحفاظ على استقرار التضخم عند مستوى 3% تقريباً، وهو ما يُعدّ، بحسب وصفه، مؤشراً على تحسّن البيئة الاقتصادية.
ولفت أيضاً إلى أن الحكومة ماضية في الإصلاحات الهيكلية في القطاع المصرفي، وتحقيق تقدم لافت في إدخال العراق إلى العصر الرقمي من خلال تطوير نظم الدفع الإلكتروني، إلى جانب تحقيق تقدم في استغلال الغاز الطبيعي في إطار تطوير قطاع الطاقة، واعتبر أن هذه الجهود تمثل عوامل رئيسية لاستدامة النمو الاقتصادي، ورافعة لتعزيز التصنيف الائتماني للعراق.
من جانبه قال عضو البرلمان العراقي وعضو اللجنة المالية، مصطفى الكرعاوي، إن الحكومة تعاني مالياً بوضوح، وقد تواجه خطر توقف العديد من المشاريع التنموية والخدمية في الأيام المقبلة إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لمعالجة الأزمة المالية المتفاقمة.
وأوضح الكرعاوي، لـ"العربي الجديد"، أن هناك تباطؤا ملحوظاً في تنفيذ الموازنة الاستثمارية، وتأخراً مستمراً في إطلاق التخصيصات المالية، ما يثير قلق اللجنة المالية التي تتابع عن كثب مؤشرات عجز التمويل وتراجع الإيرادات غير النفطية التي تعتبر أساسية لاستقرار الاقتصاد الوطني. وأضاف، أنه سبق أن طالب البرلمان الحكومة بتعظيم الإيرادات وترشيد الإنفاق، إلّا أنه أعرب عن تخوفه من قدرة الحكومة على تنفيذ هذه الإجراءات على نحوٍ فعّال ومستدام، مشيراً إلى أن التحديات كبيرة ومتعددة، ولا يمكن تجاوزها دون إرادة سياسية قوية وخطط إصلاحية واضحة.
وحذر الكرعاوي، من أن عدم الاستجابة للتوصيات الدولية قد يؤدي إلى تباطؤ حاد في التنمية، وربما توقف مشاريع حيوية تمثل أملاً للمواطنين، ما ينعكس سلباً على استقرار الاقتصاد الكلي ويزيد من معدلات البطالة والفقر، وأكد أن الأزمة المالية تشكل عقبة حقيقية أمام تنفيذ برامج الإصلاح والتنمية، داعياً إلى تكاتف الجهات المعنية لإيجاد حلول عاجلة تضمن استمرارية المشاريع التنموية وتحافظ على الاستقرار الاقتصادي في العراق.
وفي السياق، تحدث الباحث الاقتصادي علي العامري، عن أن دعوات صندوق النقد الدولي الأخيرة تعكس وصول الاقتصاد العراقي إلى مرحلة دقيقة تتطلب تدخلاً إصلاحياً جاداً في وقت يواجه فيه العراق تحديات معقدة تتعلق بتباطؤ النمو، واتساع فجوة العجز، والاعتماد شبه الكامل على إيرادات النفط، في ظلّ أسواق عالمية متقلبة.
وأضاف العامري، لـ"العربي الجديد"، أن التوصيات الأخيرة من صندوق النقد جاءت بلغة مباشرة، خاصة في ما يتعلق بضرورة تصحيح الإنفاق، وتحسين كفاءة الاستثمار العام، وتوسيع القاعدة الضريبية، ومكافحة الفساد. وأشار إلى أن الحكومة أظهرت انفتاحاً جزئياً على هذه التوصيات من خلال مشاريع البنى التحتية وتوسيع الشراكة مع القطاع الخاص، إلى جانب التحركات في القطاع المصرفي، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة الإصلاح البنيوي الحقيقي.
وأكد، أن المشكلة بالإجراءات الحكومية التي ما تزال تفتقر إلى المسار المالي متوسط وطويل الأجل، وهناك تباطؤ واضح في التعاطي مع الملفات الحساسة مثل إصلاح نظام الرواتب، وترشيد التوظيف، وإعادة هيكلة دعم الطاقة، في حين أن استمرار هذا التردد يُعرّض العراق لمزيد من الضغوط الداخلية والخارجية، وتابع أن الوقت لا يزال متاحاً لتدارك الوضع، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية واضحة، ورؤية اقتصادية جادة، وتنسيقاً فعّالاً بين المؤسّسات المالية والتنفيذية للدولة بعيداً عن التجاذبات السياسية.

Related News
