
مع إصدار اتحاد الكُتّاب العرب أول عدد من مجلته "الموقف الأدبي" بعد سقوط نظام الأسد تحت عنوان "ثقافة البعث"، يمكن القول إن مرحلة فتح الدفاتر المغلقة، والنبش تحت الردم المستمر منذ بداية ستينيات القرن الماضي، قد بدأت.
هذا العدد من المجلة، الذي أعدّه محررون جدد تولّوا مهامهم بعد تكليف لجنة لتسيير أعمال الاتحاد وضع نصب عينيه فضح واقع الحال الذي انتهت إليه تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي فكرياً وثقافياً، بعد أن هيمن على الحياة العامة في سورية منذ انقلابه الشهير في آذار عام 1963.
ولعلّ مطالعة صفحاته تكشف أنَّ القراءات المقدَّمة فيه تستند إلى حقيقة تبدو راسخة بين السوريين، مفادها أنّ الحزب الحاكم، ورغم أن خطابه السياسي انبنى على حمولة ثقافية قومية وتوجّهات اشتراكية، فإنّه قضى على الحرية التي كانت ثالث أهدافه. الأمر الذي أدّى إلى خواء ثقافي بعثي، فلم يترك البعث أثراً ثقافياً إبداعياً يُذكر، سوى تجارب شعراء حملوا لقب "شعراء البعث" كسليمان العيسى، وصابر فلحوط، ونجم الدين الصالح، وغيرهم. لكن، من يذكر هؤلاء بعيداً عن الشعر الخطابي الذي يُمجّد الثورة البعثية؟
الاشتغال على إرث النظام السياسي البائد، وتعريته، وتبديد أكاذيب إنجازاته، سيستمر لفترة طويلة، طالما أن الثقافة والإعلام في البلاد يريدان أن يثأرا مما فعله بهما. لكن المسألة فعلياً تبدو شائكة حين يُنظر إلى الثقافة السورية كلّاً واحداً، ويجرى البحث في الأدوار الفاعلة داخلها، وفي حجم تأثير الأحزاب السياسية عليها. فإذا اتفقنا على أن الثقافة العربية، ومنذ منتصف القرن الماضي، تأثّرت بالمشاريع النهضوية الثلاثة: القومي، واليساري، والديني، فإنّ انعكاسات هذه الفرضية على الحالة السورية تبدو صحيحة. ففي المشهد الثقافي ثمّة نتاجات تنتمي في مضامينها إلى الأفكار التي تخرج من هذه التيارات. لكن السؤال لا يتعلق بوجود النتاجات، بل بقدرة أصحابها، الذين ينتمون إلى تلك الأحزاب، على التأثير في الجمهور القارئ، وتقدُّمهم إلى الواجهة بوصفهم الأكثر حضوراً.
طيلة عقود، هيمن اليسار السوري، بتلاوينه المتعددة، على المشهد الثقافي. فبعد تحوّل غالبية البعثيين إلى أصحاب مناصب يجمعون من خلالها الجعالات، وخروج الإسلاميين من المشهد، صارت المنابر المتاحة تتعاطى مع الكُتّاب القادمين من أجواء الحزب الشيوعي الرسمي بوصفهم "جواكر" تمرّ إبداعاتهم دون وجع رأس. فهي لا تتلاعب بالرقابة لأهداف سياسية عميقة كالتفكير بدحر الديكتاتورية، بل تركّز على الإبداع المقبول، أي ذلك الذي لا يطمح لمغادرة هوامش المطالب الحياتية المقبولة.
أسماء سورية كثيرة مرّت في النفق نفسه، أي أنها خرجت من معطف اليسار، حتى بدا الأمر وكأنّ النشر صار مشروطاً بأداء فروض الطاعة لهذا التيار.
ورغم أن الحزب الشيوعي الرسمي، المتّهم بالجمود العقائدي، تعرّض لعدة انشقاقات، إلا أن نخبة مثقفيه ومن يدور في فلكهم كانت تتمتع بالدماثة والديناميكية، بالمقارنة مع تبلُّد الثقافة الرسمية. وهو لم يصدر أي مجلة ثقافية سوى بضعة أعداد تخصّصة من مجلة "دراسات اشتراكية"، إلا أنه كان قادراً على تسويق الأسماء السورية في الصحافة المحلية، وفي المنابر اللبنانية والعراقية.
هذه النخبة، التي يمكن تسميتها اختصاراً بـ"التيار اليساري القومي الثقافي"، تشكّلت من مزيج من مثقفين بعثيين "مدنيين"، ويساريين سابقين، وقوميين عرب، وبعض الليبراليين الخجولين، ممن فضّلوا التواطؤ مع النظام بدلاً من الصدام معه. لم يكونوا في مراكز القرار السياسي أو الأمني، لكنّهم شغلوا مواقع مؤثّرة في الصحافة، والجامعات، واتحاد الكُتّاب، ولجان التحكيم، والمؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية. لقد امتلكوا السلطة الرمزية على الثقافة، دون أن يكونوا "الحكّام" الفعليين.
التحديق في هيمنة "الرفاق" على المشهد الثقافي دفع في وقت مبكر الصحافي والشاعر السوري الراحل حكم البابا إلى القيام بخطوة "انتحارية" في عام 1994، حيث كتب في مجلة الناقد اللندنية تحقيقاً احتجاجياً بعنوان "أهل الجنة وأهل النار... الفتوح الشيوعية في الثقافة السورية"، تناول فيه آلية صنع الأسماء وفرضها على الجمهور السوري من خلال "محفل" الشيوعيين. وبالطبع، لم تمر مغامرة البابا مرور الكرام، فقد فُتحت عليه أبواب الجحيم إعلامياً، لكن الصدى الذي تركته كان مدوياً، إذ جدّد السؤال حول قدرة السياسة على التحكُّم بالثقافة، رغم أن أصحابها قد لا يكونون في سدّة القرار السياسي.
حاول البعض في فترات لاحقة تقليد حكم البابا عبر اختراع ملفات مشابهة أو التعريض بأسماء محددة، لكن الواقع نفسه كان يُفرز بين الإبداع الأصيل والمُلفَّق، أي بين ما يخرج من مصهر مستمر، وما تنتجه القوالب الجاهزة. مع ذلك، لم تقترب هذه المحاولات من الإحاطة المطلوبة، التي بدأت ملامحها الأولى تظهر الآن. فالسؤال اليوم هو: كيف تمكَّن هؤلاء من التحكُّم بالحياة الثقافية، طالما أنهم لم يكونوا حكّاماً لسورية؟
صمتَ اليسار الرسمي عن جرائم النظام وظهر بمظهر "الناقد"
الإجابة، وعبر مقاربة معرفية مستندة إلى ثلاثة من المفكرين الذين تناولوا حالات مشابهة، وهم أنطونيو غرامشي وبيير بورديو وميشال فوكو، يمكن تلخيصها في أن هذا التيار امتلك ثلاث أدوات للهيمنة:
أولاً، الهيمنة الرمزية، من خلال تقديم نفسه حاملاً خطاب "الحداثة" و"الوطنية" و"العقلانية"، مقابل ما اعتبره "رجعية دينية" أو "ليبرالية سطحية". وقد نجح في فرض معاييره لما هو ثقافة "رصينة" أو "ملتزمة"، مستبعداً الأصوات الأخرى من الحقل المشروع.
ثانياً، الرأسمال الرمزي، حيث راكم مثقّفو هذا التيار شرعيّتهم منذ السبعينيات والثمانينيات، بوصفهم أبطالاً في معركة "التحرّر" أو "الوعي القومي"، وهو ما خوّلهم احتكار دور "الناقد الوطني المسؤول"، حتى حين صمتوا عن جرائم السلطة.
ثالثاً، التحالف الضمني مع النظام، إذ لم يكن هذا التيار أداة قمع، بل أداة تغطية رمزية. فقد استفاد من هوامش التعبير، ما دام لم يمسّ جوهر السلطة. وانتقد السياسات الجزئية، لكنه لم يقترب من البنية الأمنية. وهكذا منح النظام واجهة ثقافية تقدمية، وحصل بالمقابل على شرعية وأدوات تأثير.
الحالة السورية، التي استمرّت منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اندلاع الثورة، قدّمت مثالاً صارخاً على كيفية تمكُّن تيار غير حاكم من الهيمنة على المجال الثقافي، عبر الاقتران مع السلطة، لا الصراع معها. وهذه الهيمنة، التي قد تبدو "تقدُّمية" في ظاهرها، كانت في العمق أداة لتجميل سلطة قمعية، وعائقاً في وجه التغيير.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، سقط القناع عن هذا التيار. إذ سرعان ما تبيَّن أنّ كثيراً من رموزه برّروا القمع، أو تواطؤوا بالصمت، أو أعادوا إنتاج خطاب النظام بلغة ناعمة. لقد فشلوا في الانحياز للحقيقة، لأنهم كانوا جزءاً من البنية الرمزية التي تحرس الاستبداد. في المقابل، ظهر جيل جديد من الشعراء، والكُتّاب، والمدوّنين، وفناني الشارع، ممن عبّروا عن الثورة بلغة حقيقية، فورية، غير مأذون بها من النخبة القديمة.
اليوم، يقف السوريون، لا سيما الأجيال الشابة الفاعلة ثقافياً، أمام عتبة غير مسبوقة. فبعد انزياح النظام السياسي الدموي، وتحقيقهم عملية تواصل مع ثقافات مختلفة بحكم الإقامة الإجبارية في المنافي المتعدّدة، وبحكم تضافر النيات والجهود – بحسب إعلانات السلطة المؤقتة راهنًا – من أجل بناء فضاء عام حر، يضمن للمبدعين ألّا يتعرضوا للقمع، وألّا تُصادَر آراؤهم، لا يمكن تجاهل أن الفرصة المتاحة الآن غير مسبوقة، ويمكن استغلالها إلى أقصى درجة.
وبعد هذا الانكشاف، لا يمكن الحديث عن تحرير حقيقي، لا للثقافة ولا للمجتمع، من دون مساءلة من صاغ الخطاب المهيمن، وقرّر عنهم معنى الوطنية، وحدّد أذواقهم، واحتكر الكلام باسمهم. ودون هذه المغامرة الواجبة، لا يمكن ضمان أن يمتلك هؤلاء مستقبلاً أفضل... حلمت به الأجيال التي سبقتهم.
* شاعر وناقد سوري مقيم في فرنسا
