لعبة السلطة والأقنعة في مسرحية الدكتاتور
Arab
12 hours ago
share

كرسيٌّ واحد، طاولتان صغيرتان، وهاتفان. كل شيء في مكانه، كما لو أن الزمن توقف في هذه الغرفة. في المنتصف، الكرسي يحتل المشهد. الطاولتان أمامه لا تُزاحمانه الضوء، بل تخدمانه: هاتفان هما صلة الوصل لقمع كلّ أنواع التواصل بين السلطة والشعب. المسافة بين الوهم والواقع.

على الجدار، خريطة باهتة تلمّح إلى أراضٍ "خُضعت" في حلم. وحبل يتدلّى في الخلفية، لا يتحرك، لكنه لا يغيب عن العين: وعدٌ بالعقاب، ظلّ يتأرجح مع كل لحظة توتر. هذا هو مسرح "الدكتاتور" كما أراده شادي الهبر، في عرضه الذي يقدّم اليوم الأحد على خشبة مسرح المونو في  بيروت، ويعاد تقديمها الأسبوع المقبل. إنه فضاء مكشوف لا يخفي شيئًا، ولا يحتاج إلى أكثر من رموزه.

من هذه اللغة البصرية القاسية تبدأ المرآة. تسافر بها المسرحية إلى قلب السلطة الفردية، لتخبرنا: الطغيان لا يظهر فقط في القائد، بل في كل من يشاركه خنوعه وصمته. على هذه الخشبة، يُروى نص عصام محفوظ العبثي، حيث الجنرال الزائف الذي يحكم البلاد بالحديد والنار، وسعدون، مرافقه الوحيد، الذي يحمل في وجهه انعكاس ذلك القهر. يقلّد سعدون صوته ونبرة كلامه، يرفع حاجبه بطريقة متطابقة، ينقل إلينا بأدائه كيف تُمحى الهويات، وكيف يُعاد تشكيل الفرد كائناً سلبياً مُخلّع الهوية.

الطغيان لا يظهر فقط في القائد، بل في كل من يشاركه خنوعه

لكن عندما يحين الانقلاب، تنقلب الأدوار فجأة. سعدون يتقمّص اللحظة، ويغدو هو المتحكم، فيما يتراجع الدكتاتور إلى داخل هشاشته. الكراسي تقود اللعبة: كل من يجلس يدرك أنه ليس حرًّا من ذاته، بل تحت مراقبة أسمى - الملك. يظهر لنا المشهد أن السلطة دوّارة، وأن من يعتقد نفسه الحاكم، قد تُبدّل الأدوار معه في لحظة.

لا يحتاج العرض إلى زينةٍ ولا إلى موسيقى صاخبة. الإيقاع يأتي من صمتٍ مباغت، ومن حركة جسدية دقيقة، تشي الهدوءَ بصخب. هذا النمط جعل الأداء نابضًا. جسّد الممثل كمال قاسم الدكتاتور كائناً ممزّقاً بين الكبرياء والقلق، بين الكلام الفظ والغضب المكبوت. وجعل طوني منصور من سعدون شخصية تحوّلت من تابعٍ إلى دكتاتور مصغّر، في لعبة يحاكي فيها ذاته أو يحاكي من اعتاد أن يقلده.

يعيد هذا العمل فتح جراح الذاكرة السياسية العربية، ويختبر قدرتنا بوصفنا جمهوراً على مواجهة الاستبداد من خلال الفن، في قراءة جديدة تجمع بين الرمزية العالية والطرح المعاصر، من دون أن تفقد النص زخمه الأصلي أو نبرته الساخرة اللاذعة. العمل الذي كتبه عصام محفوظ في سبعينيات القرن الماضي، يعود اليوم ليؤكد أن الدكتاتوريات، وإن تغيرت أقنعتها، ما زالت تهيمن على المشهد العربي، وأن مواجهة الطغيان لا تزال مهمة الفن الأولى.

يأتي هذا العرض ضمن مشروع موسمي أطلقه الهبر عبر منصة #مسرح_شغل_بيت، ويتضمن أربع مسرحيات تُقدَّم بين يونيو/حزيران ويوليو/ تموز 2025. إلى جانب "الدكتاتور"، يضم المشروع مسرحية "آخر مرة" المقتبسة عن "الصوت البشري" لجان كوكتو، بترجمة واقتباس ديمتري ملكي، إضافة إلى "وعد ووعد" و"إن الرقم المطلوب غير متوفر حالياً"، وكلاهما من تأليف ديمتري ملكي أيضاً.

رمزية الصمت والصراخ في قراءة سياسية مسرحية معاصرة

هذا المشروع يعكس التزام الهبر بمسرح مستقل يحاور النص الكلاسيكي والحديث، مؤسِّسًا لتجربة لبنانية تعتبر المسرح وسيلة ثقافية وتثقيفية لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية، ويعتمد في عروضه على دراما ونصوص تبرز طاقة الممثل وداخليته، مؤمنًا بأن المسرح لا يقدّم رسائل جاهزة، بل يحفّز التفكير والاكتشاف لدى المتفرج.

مسرحية "الدكتاتور" كما كتبها محفوظ، تحمل طابعًا عبثيًّا سياسيًّا، تدور حول العلاقة بين السلطة الفردية والقمع، واستسلام الناس لها. تحكي عن جنرال دكتاتور يَحكم البلاد بالحديد والنار، ومرافقه الوحيد في المسرحية، سعدون، وهو انعكاس شعبي للمواطن المسحوق، يقلده في كل شيء، حتى إنه يصبح، بمرور الوقت، صورة منه. هذه الثنائية بين الحاكم ومرافقه تضفي على العرض تكثيفًا نفسيًّا وفكريًّا، حيث يصبح سعدون مرآة الدكتاتور ومؤديًا لدوره في آنٍ.

في لحظة فارقة داخل المسرحية، تنقلب العلاقة بين الدكتاتور وسعدون، فيتحول الأخير من تابع ذليل إلى متحكم، بينما يكشف الدكتاتور هشاشته وخضوعه لقوة أعلى — الملك، الذي لا يظهر على المسرح لكنه يمثل رمز السلطة الأبدية أو “الاستبداد الأعلى”. هذه المفارقة تفضح وهم القوة، وتؤكد أن كل طاغية هو عبد لطاغية أكبر، وأن من يظن نفسه أيضاً الآمر الناهي هو في قبضة من هم فوقه، وأن الناس — مثل سعدون — قد يتحولون إلى طغاة بمجرد أن تُمنح لهم السلطة.

المسرحية تعكس أن الطغيان ليس صفة فردية، بل دور اجتماعي يمكن لأي شخص أن يؤديه، وأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست ثابتة، بل يُعاد إنتاجها مرارًا وفق الظروف. هذه الفكرة ليست غريبة عن المسرح أو السينما، فقد كانت شخصية الدكتاتور دومًا مادة خصبة لأعمال كبار الكتّاب والمخرجين.

في إخراج شادي الهبر، يُلاحظ المزج بين التجريد والبُعد الواقعي، حيث يتحول المسرح إلى فضاء رمزي، والشخصيات تبقى حقيقية جدًّا، مع تحكم دقيق في الإيقاع بحيث تكون كل لحظة توتر أو هدوء محسوبة بعناية. المراهنة في الأداء كانت على طاقة الممثلين، لا على المؤثرات الخارجية. تمثيل كمال قاسم في دور الدكتاتور كان عميقًا إنسانيًّا، فيما أبدع طوني منصور في تجسيد سعدون، الذي لم يكن مجرد تابع بل انعكاس حي للحاكم، ما أضفى على العرض بعداً نفسياً مكثفاً وثراءً في تبادل الأدوار.

شادي الهبر في "الدكتاتور" أعطى المسرحية هوية خاصة به من دون أن يخون النص الأصلي. أبدع في الديكور من خلال التجريد البصري الذي يخدم العبث والفراغ السلطوي، وفي الموسيقى التي ضخت توترًا داخليًّا غير صاخب، وفي الأداء التمثيلي الذي اعتمد على التقلب النفسي والتكافؤ بين الشخصيتين.

تبقى المسرحية كما تُقدّم اليوم، ليست مجرد إعادة إحياء لنص كلاسيكي، بل قراءة معاصرة وضرورية لواقع عربي لم يبرأ بعد من الاستبداد. في زمن تتبدل فيه الأقنعة، ويُعاد تشكيل السلطة بأشكال جديدة، يبدو هذا العمل صرخةً في وجه النسيان، وتذكيراً بأن الفن، مهما ضاق هامشه، لا يزال قادرًا على أن يزعج، ويحرّض، ويقاوم.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows