التعليم.. من التلقين إلى صناعة الإنسان الحر
Arab
12 hours ago
share

في زمن التحوّلات الكبرى الذي تُعاد فيه صياغة مفاهيم المعرفة والسلطة والذات، لم يعد من المقبول أن نتعامل مع التعليم كوظيفة تقنية تنحصر في تلقين المعلومة وحفظها، بل بات من الضروري أن ننظر إليه كمسار فلسفي علمي يؤسّس لإنسان ناهض، واعٍ، وقادر على مجابهة المجهول، لا تكرار المعلوم فقط.

إنّ التعليم النّاهض ليس خطّة دراسية جديدة أو إصلاحًا شكليًا في مناهج قديمة، بل هو تحوّل جذري في نظرتنا إلى الإنسان ذاته، إلى إمكاناته وحدوده، إلى العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، وبين العقل والعالم.

لقد طُبِع التعليم التقليدي منذ قرون بمنطق السلطة والطاعة، حيث تُختزل المعرفة في نصوص مقدسة (سواء دينية أو علمية) يُفترض أن المتعلّم يتلقّاها بتواضع وانصياع، لا أن يجادلها وينتقدها. حيث كان التلميذ يُعتبر "صفحة بيضاء"، يُكتب فيها ما يشاء المعلّم، لا عقلًا حيًّا له أسئلته وهمومه وشكوكه. لكن هذا النموذج بدأ يتصدّع مع بروز الفلسفة النقدية والعلم الحديث، حيث صارت المعرفة فعلًا إنسانيًا مفتوحًا، يتخلّق عبر الحوار، التجربة، والشك.

قال باولو فريري في واحد من أعظم كتبه التربوية "تعليم المقهورين": "التعليم لا يغيّر العالم، لكنه يغيّر الإنسان، والإنسان هو من يغيّر العالم". هذه الجملة تختصر جوهر الفكرة النّاهضة في التعليم؛ أن هدفه ليس إنتاج نسخٍ مطابقة لما هو قائم، بل إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي للإنسان في الحاضر والمستقبل، لأن المتعلّم ليس مجرّد متلقٍ، بل فاعل تاريخي، قادر على أن يتحوّل ويتحوّل معه العالم. هكذا، يكون التعليم النّاهض فعلاً تحرّريًا في جوهره، لأنه يفكّك علاقات السلطة الرمزية التي تحوّل الإنسان إلى أداة، ويعيد إليه صوته وفاعليته.

 ليس هدف التعليم إنتاج نسخٍ مطابقة لما هو قائم، بل إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي للإنسان في الحاضر والمستقبل

فلسفة التربية دعمت هذا المسار بقوّة، إذ لا يمكن بناء تعليم ناهض من دون تصوّر فلسفي للإنسان. وفي هذا الإطار يقول جان بول سارتر أحد أعمدة الوجودية: "الوجود يسبق الماهية"، أي أنّ الإنسان لا يُعرّف بما يُفرض عليه من هوية أو وظيفة، بل بما يفعله ويصنعه من ذاته. هذا المبدأ يُفضي حتماً إلى أنّ التعليم يجب أن يُبنى لا على تلقين قوالب جاهزة، بل على تحرير الإرادة وتمكين الاختيار. أما الفيلسوف إيمانويل كانط، فشدّد في تأمّلاته في التربية على أنّ الإنسان لا يصبح إنسانًا إلا بالتربية، لكن هذه التربية يجب أن تطمح إلى أن تربي على الحرية، لا على الطاعة، على الاستقلال العقلي لا على الاتكال.

غير أنّ كلّ فلسفة تحتاج إلى أدوات، والعلم هنا ليس نقيضًا للفلسفة بل حليفها، فالمعرفة العلمية الحديثة ليست تراكم معلومات، بل عملية نقدية مستمرة، تنقض الفرضيات وتعيد بناءها. كارل بوبر أحد أهم فلاسفة العلم، بيّن أن النظريات العلمية لا تُثبت بل تُفند، وأن التقدّم العلمي لا يأتي من اليقين، بل من قابلية الفرضيات للدحض. فكيف يمكن إذن لتعليم حقيقي أن يُقدّم المعلومة كحقائق مقدّسة؟ إن التعليم النّاهض يعلّم الطالب كيف يشك، كيف يطرح السؤال، كيف يواجه الجهل، لا بمعلومة بديلة فقط، بل بمنهج مقاوم.

 التعليم النّاهض يعلّم الطالب كيف يشك ويطرح السؤال، كيف يواجه الجهل، لا بمعلومة بديلة فقط، بل بمنهج مقاوم

وفي ظلّ الثورة الرقمية التي نعيشها، اتّضح أكثر من أيّ وقت مضى أنّ الوصول إلى المعلومة لم يعد مشكلة. فالموسوعات، المقالات، الدروس المصوّرة، صارت في متناول الجميع. لكن المفارقة أنّ هذا الكم من المعلومات خلق شكلاً جديدًا من الجهل: جهل التمييز. هنا يظهر الدور الحاسم للتعليم الناهض: أن يُعلّم الإنسان كيف يفكّر، لا بماذا يفكّر؛ أن يُدرّبه على النقد، لا على الاجترار. وقد لخّص نعوم تشومسكي هذا بقوله: "التعليم هو تدريب على التفكير النقدي، لا ملء العقول بالمعلومات".

لكن التعليم النّاهض لا يكتمل من دون أفق حضاري، فليست الغاية فقط إعداد فرد ناجح في سوق العمل، بل إعداد ذاتٍ حرّة، ومجتمعٍ قادر على أن يُعيد تشكيل مستقبله. فالمجتمعات التي تبني تعليمها على الخوف من الخطأ، أو على تقديس الماضي، تنتج بشرًا خائفين من السؤال، وعاجزين عن التغيير. في المقابل، فإن المجتمعات التي تغرس في تعليمها قيم الجرأة، الحرية، المسؤولية، تنتج مواطنين أحرارًا، قادرين على حمل أعباء الحاضر، وفتح أبواب المستقبل.

في الأخير، إنّ التعليم النّاهض ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية في عالم يتغيّر بسرعة هائلة، وكذلك هو تعليم يُعيد للإنسان مكانته، ويحرّره من كونه ترسًا في آلة، ليصبح مبدعًا ومشاركًا في صياغة معنى الحياة. فهل نحن على استعداد لأن نتحمّل ثمن هذا التعليم؟ وهل نمتلك الشجاعة لإعادة تعريف كلّ ما اعتدنا عليه في المدرسة، والمناهج؟ أم أنّ الحاجة إلى الأمان ستجعلنا نتمسّك بتعليمٍ يطمئننا، لكنه لا ينهض بنا؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows