
تمثل خريطة "إعادة التموضع" التي طرحتها إسرائيل في المفاوضات الجارية في الدوحة بشأن هدنة 60 يوماً في قطاع غزّة، وفق مصادر مصرية مطلعة، تحولاً خطيراً ينسف الجهود الإقليمية والدولية للتسوية، ويضع مصر أمام مأزق دبلوماسي وأمني غير مسبوق. وأوضحت المصادر نفسها لـ"العربي الجديد" أن الخريطة المقترحة، وهي خريطة سُربت في وسائل إعلام، تبقي السيطرة العسكرية الإسرائيلية على 40% من القطاع، وتُجبر مئات آلاف من النازحين على التمركز قرب الحدود المصرية. وبحسب المصادر، يضع ذلك القاهرة في مواجهة حساسة مع الفلسطينيين في رفح، جنوبي القطاع، ما "قد يؤدي، حال استمراره، إلى زعزعة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، التي بُنيت على مبدأ عدم تهديد الأمن القومي المصري أو فرض واقع ديمغرافي جديد على الحدود".
خطة "إعادة التموضع"
وتسود حالة من التوتر والقلق داخل دوائر صنع القرار في القاهرة، خصوصاً مع تصاعد المؤشرات على دعم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتوقع لرؤية رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بشأن إعادة "ترتيب غزّة" بعد الحرب، بما يشمل البقاء العسكري الإسرائيلي والسيطرة على الشريط الحدودي مع مصر (محور صلاح الدين، فيلادلفي). وتشير خريطة "إعادة التموضع" التي طرحتها إسرائيل في مفاوضات الدوحة، في الأيام الأخيرة، إلى تحول خطير في مسار الحرب على غزّة، لا يهدد حاضر القطاع ومستقبله فقط، بل يضع مصر مباشرة في قلب الخطر على المستويين الأمني والسياسي. فالخريطة تقترح الإبقاء على السيطرة العسكرية الإسرائيلية فوق أكثر من 40% من مساحة القطاع، مع تركيز مئات آلاف النازحين في منطقة ضيقة غرب مدينة رفح، على الحدود مع مصر.
تهجير الغزيين إلى سيناء المصرية يمثل خطاً أحمر بالنسبة للقاهرة
ومن وجهة نظر القاهرة، لا يبدو ما يجري مجرد تفاوض حول انسحاب تدريجي، بل مخطط لإعادة تشكيل الجغرافيا السكانية لغزّة، تمهيداً، كما تقول "حماس"، لتهجير قسري نحو سيناء المصرية أو عبر البحر. هذا السيناريو، حتى وإن لم يُعبَّر عنه رسمياً، يُعد خطاً أحمر للأمن القومي المصري. ولم تصدر القاهرة أي إدانة علنية لمضامين الخريطة الإسرائيلية، كما لم توجّه خطاباً حازماً ضد ما يُنظر إليه محاولة لإعادة احتلال غزّة تحت غطاء "إعادة التموضع".
شراء الوقت
يُفسَّر مراقبون هذا الصمت المصري بعدة أبعاد؛ منها ما هو مرتبط بالحفاظ على قنوات التفاوض مع تل أبيب وواشنطن، ومنها ما يعكس الحذر من الانزلاق في مواجهة دبلوماسية مباشرة مع حكومة نتنياهو التي تحظى بدعم متجدد من إدارة ترامب. ويعتقد هؤلاء أن دعم ترامب العلني لنتنياهو، خصوصاً في ما يتعلق بإعادة "ترتيب" غزّة بعد الحرب، يضيف بعداً جديداً للمأزق المصري. فالقاهرة تجد نفسها أمام إدارة أميركية تمنح تل أبيب الغطاء السياسي الكامل لخططها في القطاع، بما في ذلك استمرار الاحتلال أو التهجير الجماعي. لذلك، يبدو أن الدولة المصرية تحاول شراء الوقت بانتظار توازنات دولية جديدة أو تسويات مؤقتة تُبقي الوضع تحت السيطرة.
ومع ذلك، وبحسب ما تؤكده مصادر مصرية، تدرك القاهرة أن استمرار التعثر في التوصل إلى اتفاق شامل ومتوازن للهدنة، مع الإصرار الإسرائيلي على خرائط قضم الأراضي، سيفرض عليها تحركات أكثر صرامة. أبرز هذه التحركات المحتملة تعزيز الوجود العسكري والاستخباري في الشريط الحدودي، ورفع الجاهزية اللوجستية والإنسانية في حال حدوث موجة نزوح واسعة، إضافة إلى الدفع بمبادرة سياسية بديلة من خلال الرباعية الدولية (مصر، قطر، الولايات المتحدة، والأمم المتحدة)، تضمن انسحاباً إسرائيلياً كاملاً دون انتقاص من وحدة غزّة الجغرافية.
مختار الغباشي: خطة إسرائيل تمثل تحايلاً واضحاً على مبدأ الانسحاب الكامل
وتبدو القاهرة أمام معادلة دقيقة في ظل خريطة "إعادة التموضع" المطروحة، وهي التمسك بدورها وسيطاً محورياً في الإقليم، والتصدّي لمشروع تهجيري غير معلن قد ينفجر عند حدودها الجنوبية من جهة أخرى. ويقول مختار الغباشي، نائب مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، لـ"العربي الجديد"، إن الخطة الإسرائيلية المقترحة لـ"إعادة التموضع" في قطاع غزّة "تُعد تطوراً بالغ الخطورة، لأنها تمثل تحايلاً واضحاً على مبدأ الانسحاب الكامل، وتفتح الباب أمام التهجير القسري أو الطوعي تحت ضغط الواقع الإنساني والمعيشي".
وما يزيد من خطورة الخطوة، وفق الغباشي، أنها تأتي في سياق إقليمي ودولي وصفه بأنه "عاجز، إن لم يكن متخاذلاً أو غير راغب في ممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل أو على الولايات المتحدة لكبح هذا المسار الخطير". ويصف الغباشي الموقف المصري بأنه "لا يُحسد عليه"، وأن مدينة رفح باتت تشهد "أكبر تكدّس بشري داخل القطاع بفعل التهجير والنزوح، وهو ما يشكل ضغطاً هائلاً على مصر، التي تجد نفسها أمام تحدٍ إنساني وأمني مباشر"، في إشارة إلى ما يشبه "مدينة خيام" ضخمة نشأت قرب المعبر الحدودي (معبر رفح بين القطاع ومصر).

Related News

