أساليب التطريز في الفن الفلسطيني المعاصر
Arab
1 day ago
share

يُمكن النظر إلى فن التطريز الفلسطيني بوصفه نتاجاً لصيرورة ثقافية معقّدة تتداخل فيها الجغرافيا بالتاريخ، وتتقاطع السياسة مع الإبداع الفني، ما يجعله وسيطاً بصرياً حيّاً يُعبّر عن الهوية، ويؤسس لمساحات جديدة في دراسات المقاومة الثقافية والفنون التشكيلية المعاصرة. فهذه الممارسة التي نشأت بوصفها حِرفة منزلية، تحوّلت تدريجياً إلى خطاب فني مشحون بالدلالات، يعيد تعريف العلاقة بين التراث والتحديث، ويؤكّد أن الفنون الشعبية قادرة على تجاوز الطابع التزييني لتُصبح أدوات ديناميكية تُجسّد النضال، وتُحافظ على الانتماء داخل سياقات عالمية متغيّرة، من دون أن تنفصل عن جذورها المتجذّرة في الأرض والثقافة.

يأتي كتاب "خيوط السرد: التطريز الفلسطيني في الفن المعاصر" للفنانة والباحثة جوانا بركات، الصادر عن دار الساقي (2025)، ضمن هذا السياق، إذ يتناول تأريخ هذا التحوّل، حيث يُقدّم توثيقاً وتحليلاً دقيقاً للتحوّلات الجمالية والمفاهيمية التي طرأت على فن التطريز الفلسطيني. فالكتاب لا يكتفي برصد التجليات المعاصرة لهذا الفن، بل يتعامل معه بوصفه لغة تشكيلية متجدّدة تتجاوز البعد الحِرفي، وتُعيد صياغته ضمن وسائط متعددة مثل الرسم، والفيديو، والتركيب، والنحت، وفنون الأداء.

يجمع العمل أكثر من مئتي عمل فني لأربعة وعشرين فناناً وفنانة فلسطينيين معاصرين، ممّن استخدموا تقنيات التطريز في مقاربات فنية تتقاطع مع أسئلة الهوية، والذاكرة، والمقاومة، مقدّمين نماذج تعبّر عن التحوّل الجذري في فهم التطريز، ليس بصفته موروثاً فقط، بل أداة فنية نقدية متفاعلة مع قضايا الحاضر.

لا ينحصر التوظيف الفني هنا في البعد الرمزي للتطريز كونه تراثاً وطنياً، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلته، وإعادة تفكيكه، ثم إعادة بنائه بصيغ جديدة تجمع بين الخيط والإبرة والتقنيات الرقمية؛ كما في حالات التطريز المباشر على اللوحات، أو دمجه في مشاريع تفاعلية رقمية، أو حتى في سياقات الأزياء المعاصرة. ويتكامل هذا الجهد مع مشروع (Tatreez) الذي أطلقته بركات، ويضم ملفات بصرية، وأرشيفات مفتوحة، وحوارات نقدية مع الفنانين، مسلطاً الضوء على استخدام التطريز وسيطاً فنياً حديثاً يعيد النظر في العلاقة بين الحرفة والفن، وبين الأيقونة التراثية وتجلياتها في ممارسات الفن المفاهيمي المعاصر.

كل غرزة تحمل حكاية عن قرية، عن امرأة، عن مقاومة صامتة

صدرت العديد من الكتب الأخرى التي وثقت تحوّلات التطريز في الممارسات الفنية المعاصرة، وتبرز من بينها مجموعة من الكتب المرجعية التي أسست لفهم هذا التراث بصرياً وتقنياً عبر الزمن، من أبرزها كتاب وداد قعوار وتانيا ناصر (1992) (Palestinian Embroidery: The Traditional Fallahi Stitch)، الذي يوثّق نماذج التطريز القروي التقليدي بالأسلوب الفلاحي، إلى جانب كتاب (Palestinian Embroidery Motifs 1850–1950) لمارغريتا سكنر ووداد قعوار الصادر عام 1998، وهو خزانة بصرية لنقوش التطريز الأصلية. ويقدّم دليل فن التطريز الفلسطيني لسليمان منصور ونبيل عناني أكثر من 600 نمط تطريزي موثّق ومصنّف جغرافياً، إلى جانب العشرات من الكتب والدراسات الأخرى التي تناولت موضوع التطريز الفلسطيني، ما يشكّل أرضية معرفية لفهم التطريز، باعتباره تعبيراً بصرياً مركّباً بين التراث، والسياسة، والهوية.

دور المؤسسات في تفعيل التطريز الفني

تُظهر هذه المشاريع كيف تحوّل التطريز من حرفة منزلية إلى أداة سياسية واجتماعية، عبر جهود مؤسسية ومجتمعية، منها مركز الفن الشعبي الذي تأسس في رام الله عام 1987، وأطلق مهرجان فلسطين الدولي للرقص والموسيقى عام 1993 (أول مهرجان دولي في فلسطين)، إلى جانب مهرجان التراث منذ عام 1989، ومبادرات ثقافية متعددة مثل مدرسة الرقص، ودورات الدبكة، وأرشفة الأغاني والموسيقى الشعبية. كذلك برزت جمعيات مثل "إنعاش الأسرة"، إلى جانب مبادرات نسائية نشطت في المخيمات الفلسطينية في لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات، وارتبطت بمشاريع تمكين النساء، ودعم الإنتاج الثقافي المحلي في ظل اللجوء.

وعمل المتحف الفلسطيني في بيرزيت على فتح المجال أمام الفنون الحِرَفية باعتبارها فناً متجدداً، وليس مجرد أرشيف تاريخي. وأولى أهمية خاصة لفن التطريز ودلالاته التاريخية والاجتماعية والسياسية، من خلال سلسلة معارض بحثية، من أبرزها: "أطراف الخيوط" (2016)، الذي تتبّع التحولات الجمالية والاجتماعية للتطريز في سياقات النزوح واللجوء، ومعرض "غزل العروق" (2018)، الذي قدم مقاربة أرشيفية ونقدية للتطريز، بوصفه أداة مقاومة وهوية متجددة، عارضاً نماذج من أثواب نسائية، ونتاج ورش عمل من مخيمات لبنان والأردن منذ السبعينيات، إلى جانب أعمال لفنانين معاصرين أعادوا توظيف الرموز التراثية، مثل "الثوب" و"المفتاح". كذلك قدّم معرض "بين الحياة وما فيها" (2023) اشتباكاً بصرياً جديداً مع مفهوم التراث، حيث استُخدم التطريز مكوناً تعبيرياً ضمن ممارسات فنية تتناول الذاكرة والمقاومة.

في عام 2023، أقيم معرض جماعي بعنوان "خيط حرير على خيط حرير" في مركز بيروت للفن، امتداداً لمشروع بحثي أعدّته القيّمة البريطانية راشيل ديدمان، ركّزت فيه على تاريخ التطريز الفلسطيني قبل وبعد نكبة 1948، ودوره في تمثيل الهوية والمقاومة الثقافية. كما أقام حواراً فنياً معاصراً بين التراث والحداثة، بمشاركة فنانين مثل منى حاطوم، وتيسير البطنيجي، ومنيرة الصلح، وخليل رباح. مستكشفاً تطور استخدام الخيط في فنون متعددة كالتركيب، والأداء، والفيديو.

تجارب فنية معاصرة في التطريز الفلسطيني

عكس بعض الفنانين الفلسطينيين واقع الحياة العامة مستخدمين التطريز ببعده الاجتماعي، عبر رسم النساء وهنّ يلبسن أثوابهن التقليدية، مثل إسماعيل شموط، ونبيل عناني، وسليمان منصور، وعبد الرحمن المزين، وفتحي غبن. في حين بدأت تتشكّل رمزيات معاصرة للتطريز، باعتباره هوية ومساراً ثابتاً نحو المكان والأرض. وتحول الرسم من نقل سرديات واقعية، إلى عملية صراع ضد المحتل الذي حاول سرقة هذا التراث، مما فتح الباب أمام فنانين محدثين ومعاصرين لتوظيفه مادة متعددة التشكلات والمعاني.

الفنانة بثينة ملحم (1961) استخدمت التطريز في تجربتها الفنية بدلالات وطنية، رمزية وجمالية. تنسج أعمالها من أقمشة قديمة، وخيوط، ودبابيس، وتمزجها بالشاي والقهوة لإنتاج ألوان تعبّر عن الأرض، والمرأة، والهوية، وتحوّل الثوب إلى خريطة احتجاج على الحدود والاحتلال.

أما الفنان جوردن نصّار (1985)، فيقدّم رؤية معاصرة يدمج فيها التطريز بالمناظر الطبيعية على لوحات قماشية مزخرفة يدوياً، مستوحاة من الرموز الهندسية والنباتية. كذلك مجد عبد الحميد (1988)، الذي يوظف التطريز وسيلة للتعبير عن الهوية والذاكرة والواقع السياسي، واستكشاف موضوعات الزمن والندوب النفسية والجسدية.

أما جوانا بركات (1981)، فتخوض تجربة فنية وثقافية مع فن التطريز الفلسطيني التقليدي، بدأت بتعلّم غرزة "شجرة السرو الغزّي"، ثم مزجت هذا الفن في أعمالها التشكيلية، بما في ذلك لوحات تجمع بين الخيط والصورة والرمز. وتؤمن بأن كل غرزة تحكي قصة عن القرية، والمكانة الاجتماعية، والوضع السياسي.

 

* فنان تشكيلي من فلسطين

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows