
من دمشق إلى لندن، ومن طفل مع الراحلة شادية في كواليس "خياط السيدات" إلى بطولة جوان كولينز في "كسارة البندق"، شقّ المخرج السوري أنور القوادري مساراً سينمائياً جعله شاهداً على تحوّلات فنية وسياسية كثيرة. صنع أعمالاً كسرت التابوهات، من "غرفة الانتظار" إلى "جمال عبد الناصر". اليوم، يضع أنور القوادري لمساته الأخيرة على مشروع سينمائي يطمح إلى إعادة الروح إلى السينما السورية، في عملٍ يرتبط رمزياً بذكرى سقوط النظام، وسط مفاوضات لإنتاجه عالمياً. يكشف أن رجل الأعمال المصري، أشرف مروان، رفض تمويل فيلم "جمال عبد الناصر"، فنقل الطلب إلى محمد الفايد الذي قال له ساخراً: "روح لصهره الملياردير!".
في لقائه مع العربي الجديد، يتوقف أنور القوادري عند مفترقات الذاكرة ويروي فصولاً لم تُحك بعد.
هل نحن أمام عودة مميزة؟ أم أنك تفكر هذه المرة في كسر التوقعات وبداية فنية مختلفة؟
أتعامل مع كل عمل جديد كأنه تجربتي الأولى. ومنذ بدايتي في "غرفة الانتظار"، الذي تناول العنصرية عبر قصة تحرّش امرأة بيضاء برجل أسود، اعتدت كسر القواعد والخروج عن المألوف. أمتلك إحساساً دقيقاً في اختيار الممثلين للأدوار المناسبة، وأعتبرها من مفاتيح النجاح في السينما والتلفزيون. في "كسارة البندق"، مثلاً، اخترت الممثلة جوان كولينز وراقصة باليه مغمورة.
سُئلت من قبل عن سبب غيابك عن الإخراج لفترات طويلة. هل يمكن لمخرج اختيار الصمت فعلاً؟
لم يكن ابتعادي عن الإخراج قسرياً، بل جاء وسط فوضى يشهدها السوق السينمائي عربياً وعالمياً. لا أنتمي إلى مدرسة تقليدية، ولكل عمل لغته وبصمته الخاصة، والإبداع بالنسبة إليّ لا يُكرَّر. أحرص على التنويع، وأمنح القضايا الإنسانية أولوية، وفي مقدمتها المرأة، التي تحضر بقوة في معظم أعمالي، حتى حين لا تكون محور القصة. ومن هنا شدّني "موعد على العشاء" لمحمد خان، وتواصلت معه برغبة في اقتباسه عالمياً. المعتاد أن تنتقل الاقتباسات من الغرب إلى الشرق، لكنني آثرت عكس الاتجاه، ونقل عمل عربي إلى فيلم أجنبي.
فيلمك "جمال عبد الناصر" (1999) أثار كثيراً من السجالات، بين من اعتبره تمجيداً لشخصية الرئيس المصري، ومن رأى فيه طرحاً مختلفاً. اليوم، بعد ما كُشف عن تلك المرحلة، هل ترى أنك قدّمت عبد الناصر برؤية محايدة أم مؤمنة بالمشروع القومي؟ ولو أتيحت لك فرصة إعادة إخراجه، هل كنت ستقدّمه بطريقة مختلفة؟
فيلم "جمال عبد الناصر" كان تحدياً استثنائياً لأنه كسر التابوهات، على عكس "ناصر 56" الذي اكتفى بالعدوان الثلاثي. قدّمت سيرة عبد الناصر من الكلية الحربية حتى الوفاة، ورسمته شخصيةً معقّدة، وليس رمزاً مثالياً. هذا النهج أثار ردود فعل غاضبة، وخصوصاً من ابنته هدى عبد الناصر التي اتهمتني بالعمالة بسبب مشهد تفاوضه مع ضابط إسرائيلي في حرب 1948، وهو مشهد موثق، حُذف لاحقاً من النسخة السورية. كذلك، تناولت علاقته المتوترة بعبد الحكيم عامر وزواجه ببرلنتي عبد الحميد. الفيلم كُتب بالإنكليزية، وكان يُفترض أن يكون مشروعاً عالمياً. ولجأت إلى أشرف مروان لتمويله، لكنه رفض، ثمّ توجّهت إلى محمد الفايد الذي قال: "روح لصهره الملياردير". لو أعدت إخراجه اليوم، لأضفت ما حُذف، لكنني فخور بما أنجزته.
أعمالك تنقّلت بين دمشق ولندن، بين المحلّي والعالمي. هل تشعر أنك تُنتج بوصفك عربياً يُخاطب الآخر؟ أم أنك عابر للانتماءات يحاول خلق لغة سينمائية عالمية؟
لا أؤمن بتصنيف السينما إلى عربية أو عالمية، بل أنطلق دائماً من سؤال جوهري: من هو جمهوري؟ حين كتبت مسلسل "عرب لندن" (2008)، كنت أعي أن جمهوره الأساسي هم العرب المقيمون في بريطانيا، الذين يعيشون بين ثقافتين ويواجهون تناقضات يومية. وجمع العمل شخصيات من خلفيات متنوعة: سورية ولبنانية ومصرية وخليجية. قدّمتها كما هي، بتعقيداتها وتناقضاتها. سبق "عرب لندن" زمنه في بعض تفاصيله؛ صوّرت فيه السوري متشرّداً قبل اندلاع الحرب، ورسمت شخصيات مضطربة، كالحج بيومي الذي يتأرجح بين التدين والكحول وزوجته العصرية، ونايف السعودي الذي يعيش حياة مزدوجة مع زوجته الإنكليزية.
حين كتبت وأخرجت فيلمك البريطاني "بولينا" في عمر مبكر، كيف كانت تجربتك في اختراق الصناعة السينمائية الغربية وبخاصة البريطانية؟ وهل شعرت بأن هناك تحديات خاصة تواجه المخرجين الآتين من خلفيات عربية أو شرقية أو ما يمكن تسميته بـ"حواجز غير مرئية"؟
كان "بولينا" مشروع التخرّج بعد دراسة السينما في لندن عام 1978، وشاركت به في مهرجان شيكاغو ضمن قسم أفلام الطلبة، إذ لاقى إعجاب النقاد. في تلك الفترة دعمني أستاذي تيودور غايت، كاتب باربريلا، وقال لي: "عندك مستقبل، لكن لن تدخل نقابة المخرجين في بريطانيا ما لم تُخرج فيلماً بريطانياً كاملاً"، بسبب ما كان يُعرف وقتها بـ"المحل المغلق". منحني غايت فرصة إخراج فيلم بريطاني بعنوان Sex with the Stars. بيد أنّ الانطلاقة الحقيقية نحو العالمية جاءت مع "كسارة البندق"، الذي عُرض في خمسين صالة سينما في لندن في الثمانينيات، قبل أن ينطلق إلى دور العرض العالمية.
مع تغير أدوات الإنتاج وظهور المنصات الرقمية، كيف ترى تحوّلات الصناعة السينمائية اليوم؟
أنا مخرج أتكيف مع المتغيّرات. بدأت في زمن الفيلم التقليدي، حين كنا ننتظر يوماً كاملاً لتحميض المشهد. اليوم تغيّر كل شيء؛ المنصات الرقمية فرضت نفسها، ولم يعد العرض حكراً على صالات السينما. مع ذلك، ما زلت أؤمن بالسينما الكلاسيكية، وبأن الفيلم تجربة يجب أن تستحق وقت المشاهد وثمن تذكرته. إنها مسؤولية حقيقية: إما أن يخرج راضياً وإما مخذولاً.
في ظل التغيّرات الأخيرة في سورية، هل ترى أملاً في نهوض السينما مجدّداً، أم أن الدراما التلفزيونية ما زالت تهيمن وسط الرقابة وغياب التمويل؟
كانت السينما السورية في بداياتها حلماً حقيقياً. والدي، تحسين قوادري، شارك في تأسيسها إلى جانب أسماء مثل محمد الأتاسي، وقدّما ممثلين مهمين، مثل دريد لحام ونهاد قلعي. كنت محظوظاً في أن أعيش تلك الأجواء الساحرة من قرب. أتذكر أنني، حين كنت طفلاً، جلست في حضن شادية في أثناء تصوير "خياط السيدات" الذي أنتجه والدي. اليوم، تحاول سورية النهوض من تحت الركام، بعدما هُمِّش ما بناه الروّاد بفعل إدارة غارقة في المحسوبيات. أُعطيَت الدراما التلفزيونية أولوية، بينما تُركت السينما لتُهمل وتُنسى، فيما حافظ جمهور لبنان ومصر والخليج على علاقة بدور العرض.
كيف تنظر اليوم إلى تجربة والدك تحسين القوادري؟ هل كانت أكبر من أن يستوعبها زمنها؟
السينما كانت تجري في عروق والدي، الذي ترك المدرسة وهو في الحادية عشرة، واضطر إلى إعالة أسرته بعد وفاة والده. صديق قديم للعائلة كان يعمل عارضاً سينمائياً، تولّى رعايته وأدخله هذا العالم في أواخر الثلاثينيات، حين كانت السينما وسيلة الترفيه الوحيدة. وبدأ اسم والدي يُعرف واستمر في توزيع الأفلام حتى عام 1964. والدي هو من اقترح إدخال دريد لحام ونهاد قلعي إلى السينما بعد نجاحهما في المسرح والإعلانات. البداية كانت بفيلم "عقد اللولو" عام 1964، الذي حقق نجاحاً مدوياً، وأطلق شهرة والدي مُنتِجاً، وفتح الباب أمام لحام وقلعي ليصبحا نجمين عربيين. كان والدي من المؤسسين الفعليين لسينما القطاع الخاص في سورية، التي وُلدت موازيةً للقطاع العام، لكنها امتازت بالحرية والتنوع ولهذا أحبّها الجمهور.
كيف تقارن بين مساري السينما في سورية ولبنان خلال العقود الأخيرة؟ وهل تخشى أن تُعيق الرقابة أو السوق مستقبل الإبداع الدرامي والسينمائي في سورية؟
صراحةً ومن دون تحيّز، لم تشهد السينما السورية النهضة التي كنا نرجوها، بخلاف ما حدث في لبنان بعد الحرب الأهلية. ما حدث لدينا كان نهوضاً درامياً وليس سينمائياً، خصوصاً في المسلسلات التاريخية، التي قادها ببراعة الراحل حاتم علي، عبر أعمال مثل "الزير سالم" و"الأنْدَلُسيات". كان أول من منح الدراما السورية بعداً بصرياً أقرب إلى السينما، بفضل التصوير الخارجي والطبيعي. في ذلك الوقت، كانت الدراما المصرية تمر بحالة من الركود، باستثناء أصوات لامعة مثل وحيد حامد، بينما الدراما السورية بدأت تفرض حضورها في الشاشات العربية. أما لبنان، فقد استند إلى إرث درامي قديم وأعاد بناءه تدريجياً. اليوم، تغيّر التوازن. تطورت الدراما اللبنانية، وازدادت جرأتها، بينما تراجعت السورية بعد الحرب، واضطر كثير من صنّاعها إلى الهجرة نحو بيئات أكثر حرية، كلبنان. أكثر ما يُقلقني في المشهد السوري، احتمال فرض رقابة صارمة تُحدّد ما يجوز وما لا يجوز، وهذا كفيل بخنق الإبداع وتنفير المستثمرين، خصوصاً في زمن المنصات المفتوحة مثل "شاهد" و"نتفليكس"، إذ لا مكان لمقصّ الرقيب. من المثير للقلق أيضاً موجة إعادة إنتاج المسلسلات التركية الطويلة، باستخدام ممثلين سوريين ولبنانيين. هل بلغنا هذا الحد من الإفلاس الفكري؟ لدينا كتّاب موهوبون، لكن يبدو أنّ السوق لا يرحم.
ما الجديد الذي تعمل عليه حالياً؟ هل هناك مشروع قادم يمكن لجمهورك أن ينتظره؟
أعمل حالياً على مشروع سينمائي ضخم، هو عمل ملحمي أطمح إلى أن يشكل مفاجأة حقيقية للجمهور، خصوصاً في سورية التي أريد أن أعيد لها ثقتها بالسينما وبقوة سرد تاريخها. السنوات الـ14 التي مرّت على الشعب السوري خلال الحرب كانت قاسية، وأنا أطمح من خلال هذا الفيلم إلى أن أقدّم عملاً يعكس هذه المرحلة المصيرية. العمل يرتبط رمزياً بذكرى سقوط النظام، وهناك مفاوضات تُجرى حالياً لإخراجه إلى النور على المستوى العالمي.
