إنها لحظة فقط، نعجز فيها عن التأني والانتظار، بل كلّ ما في الأمر أنني عاجزة عن النوم لا أكثر. إنني عوّدت نفسي أن تتلقّن دروسها قبل بزوغ الفجر كي لا تنعم بأيّ قسط من راحة. فالرّاحة على ما يبدو من المحرّمات على من يعيش أيّامه متعاليًا على الحياة.
هل كان الوقت كافيًا لكتابة كلّ الرّسائل؟ هل لُمنا بما يكفي؟ هل لملمنا ما تبقّى من أخبار قبل الرّحيل؟ لا أعلم. فأنا لم أعطِ وقتًا للوقت. ولا أجيد سرد "الأخبار" كما يجب. حتّى إنني لست على يقين باكتراثي لما جمعته حقيبتي خُلسةً بينما كنت أحضّر جلسة الأوهام. المهم أنّ كلانا رحل، عن نفسه وعن الآخر.
وفي ومضة الأحداث المتعاقبة، لا مجال للحنين، أو الانبهار، بل كلّ ما يُلفى هو الوحدة ليس إلا. الجميع راحل لا محالة، فالحياة بحدّ ذاتها تليق بالغائبين أكثر، فهم الذين لا يُعاتَبون، هم الذين يُمجَّدون مع الذكرى، هم الّذين يغسلون عار الحياة وينتصرون عليها. أمّا الباقون فيفتقدون شرذمة الجثث تارةً وطورًا يتفقّدون اليقين.
لم يبق سواه، أحدّثه في وحدتي العميقة، بمراسلات ساذجة. هو الّذي أخبرني في رسالته الأخيرة كم أنّ الحياة عبثية، كما لو أنّني لا أعرف هذا. كما لو أنّني لا أردّد ذلك اللحن عند كلّ قرعة باب ورنّة منبّه. كما لو أنّني لا أسقي كلّ يومٍ مشاتل المقابر علّها ولو لمرّة تنبت حجر مماتي. كتبها بطريقته المعهودة الّتي ما زالت تبهرني، رغم تحرّري من الأدب. كتبها، كما كتب رسالته الأولى، بكذب مُتقن أو صدق عابر، لا أعلم. أو بالأحرى، فإنني أدرك جيّدًا مقصده وككلّ مرّة أقرّر التجاهل. فالبئر تلك لم تعد ترويني، وحرّيته العزيزة فجّرت كلّ آمالي، وسلاسله الغزيرة؟ هنا... في مكانٍ ما، ولكنّها فقدت كلّ شيء يربطني بها.
فهو الذي أخبرته بدوري، كم أنّ أبناء جنسه موبوؤون، يرقدون عند "المَجْلَد" في آخر الرواق، مروِّجين سَقَماً لا شفاء منه مدى العمر.
فهم الخاسرون الأزليّون، إذ لا يعيشون سوى كالرّحالة. يعيدون بناء أماكن غريبة عنهم على صورتهم، أي تمامًا كما يحبّون، فقط كي يتركوها
أخبرني الكثير، إلا أنّ مراسلة الماضي تلك، يوم كنّا كلانا الكتّاب وسعاة البريد، لها بريقها الّذي أَبهَتَتْه فجاعة المسافات. فبتُّ أخجل كم أصبحت متعلّقة بتلك الأماكن بعد أن هجرتها عمدًا. كأنّما لا تعي الأفكار والمشاعر خصوصًا إلا غباء الغياب. لا بل أضحيت أكثر تعاطفًا مع كلّ من ابتُلي ببراءة المطاردة، فما من أحد يخسر في هذه الألعوبة بقدر من يقسو ويغادر.
فهم الخاسرون الأزليّون، إذ لا يعيشون سوى كالرّحالة. يعيدون بناء أماكن غريبة عنهم على صورتهم، أي تمامًا كما يحبّون، فقط كي يتركوها، بعد أن يرموا فيها بضعًا من أملهم. أولئك، إضافة إلى كونهم عنوانًا لعدم الاستقرار؛ يصبحون مع الوقت فارغين، محنّطين في المتاحف أو شبّاكًا لستارة.
هم يلعنون السفر بعد تماديهم، ففي كلّ مكان لهم انتصار آنيّ لم يدم. هم الإرهابيون الذين يفجّرون الأماكن الثابتة لنصب خيمهم المؤقّتة. هم اللاشيء الّذي يملّ الأشياء لفداحة وضوحها، وقلّة عمقها، وكونها بدلًا من الحياة، مرادفًا لأضحوكة.
لكنّني منهم. أفجّر الذكرى ثم أوَكّل أوطاني بالبحث عن الجاني؛ أهجّر الكتب من مكتباتها وأذرف الفتات كي أعيدها إلى أراضيها؛ ثمّ أقتل الكلمات في معانيها وأعادي سموّ منتقديها. فما فهم الحياة سوى توغل في سَيلٍ، لا يكلّ فتكًا بأرواحنا؟
فربّما...هذا هو اليقين الوحيد المتكرّر...يقين لا يجوز له إيجاد أيّ مرسى...
ربما لا يكون دفء البيوت إلا وهمًا آخر ابتدعناه إلى جانب الراحة والأمان. ربما تكون كل البيوت باردة ومليئة بالصراخ والعقد والدخان. ربّما تكون بيوتنا جميعها أشلاء من جثث هُنْدِسَت لتحوي ذكريات الأموات لا الأحياء.
ربما، تكون منازلنا ساحات الحرب التي تفقدنا العتاد في باقي حروبنا، فنمسي متسولين للأسلحة في شتّى الأرجاء.
ربما تكون العائلة محض مصادفة طاب لها أن تطول، وتتفكك في نوافذها من دون هرب. ربما، تكون جدّاتنا قد لقين حتفهنّ في رواياتنا المنسية عند الانتظار. ربما نكون جميعًا نتيجة لترقيع رقعة في ثوب الحياة الممزّق، حيث يقرع الموت لحنه المريض طوال الوقت.
ربما لم تكن دموع الطفولة سوى أمطار تروي قحولة أمانينا، بدلًا من أن تروي قصصًا عظيمة، لذكريات لا تُبكي. ربما، قُصَّت أجنحتنا في أرحام أمهاتنا، فألفت أقاصيصنا ناقصة وبلا رحمة.
ربما فضلنا التريث بدلًا من الثورة على تراث يُضنينا؛ إلى أن فجّرتنا الغربة بين الغرب والغرابة؛ خلف قافية تعبث بالزوار. ربما نتقصد إلقاء الآلام على جبال الماضي، حيث الجروح تلتئم، أو تتلثّم، بعيدًا، في خلوتها.
ربما، أبرمنا من دون علمنا صفقة استعبادية مع الحياة، لذا لا نرمش للصفعة ولا تُنفّرنا السادية. ربما، لم يضع الوقت، بل قايضناه على أحلامنا، فقضى عليها تدريجيًّا.
ربما، سلّمنا مفاتيح الصلاة كي لا تشقّنا الآلهة على المقابض...
واللائحة قد تطول إلى ما لا نهاية، فمن منّا مُتّزنٌ في الحقيقة؟ من منّا لا يتعامل إلا وفق العقد المتراكمة، الآخذة بالتمادي والانبساط على كلّ شيء؟
فحبّذا، حبّذا لو مرّ شخصٌ واحدٌ لم تكن تصرّفاته انعكاسًا لتيه، شبيهٍ بتيه ما أقدمت على كتابته. شخصٌ واحدٌ فقط، يبرهن أنّ سنّ الرّشد لم يُسمَّ هكذا عبثاً، وليس محض فصلٍ كوميديّ من مصحّة عقلية، أو فورةٍ جنسيّةٍ "طاعنةٍ" بالمراهقة. شخص واحد لا يتلاعب، ولا ينتظر تمرّسًا بالخضوع كي يكون الصوت مسموعًا، أو "مكتملًا" كما يقولون، أو الأسوأ..."تابعًا"، لأيّ شيءٍ ممّا يمثّلون.
حينها، "ربما" لن تكون الكتابة صدى عزلةٍ لا يُعترف بها، ولا الرسائل هراءً من الماضي...حينها، فقط قد يتلاشى التيه، ويعود أحدنا، "لنفسه، وللآخر"...
Related News

