
صورة المدينة المتوسطية، كما يصوّرها الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد في روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية" (1996)، خلقتْ حواراً بصرياً مع ما يقرب من ثلاثين فناناً، بينهم سبعة عشر من الفنانين المحترفين، وثلاثة عشر من طلبة الفنون، قدّموا أعمالهم في المعرض الذي يحمل عنوان الرواية نفسه، والمقام في غاليري "آرت كورنر" بالقاهرة حتى منتصف الشهر الجاري.
يرسم الفنان محمد عبلة لوحة تطلّ منها شخصيات وعناصر متعدّدة، تضمّ أيضاً جندياً وحصاناً وقارباً داخل مشهد بصري يغمره اللون والحركة. بألوانه الصارخة وتكوينه المتناثر، يعيد عبلة هنا سرد مدينة الإسكندرية بصيغة حالمة ورمزية، تعكس رؤيته للمدينة كما وردت في الرواية: ساحة للعبور والتعدّد والصراع.
لوحة عبلة لا تقدم توثيقاً بصرياً لمشاهد الرواية، بل هي أشبه باستبطان بصري لذاكرة المكان وتاريخه المركب. في لوحة أخرى للفنان الشاب محمد محمود، وهو طالب في كلية الفنون الجميلة، تطلّ قلعة قايتباي تحت سماء باهتة، بينما يسيطر إحساس كثيف بالزمن، وبالحرب، وبالانتظار.
لم يترجم الفنانون الرواية، بل تحاوروا مع أجوائها وذاكرتها
يحتفي المعرض، الذي يشرف عليه الفنان سمير عبد الغني، بهذا النص الأدبي، حيث تتجاور العديد من الأعمال، وتلتقي جميعها عند نقطة واحدة: الإسكندرية كما رآها إبراهيم عبد المجيد. لا يسعى المشاركون هنا إلى ترجمة الرواية بشكل مباشر، بقدر ما ينخرطون في حوار حر مع أجوائها. هناك من يلتقط مشهداً مألوفاً، ككوبري ستانلي، وهناك من يغوص في ثيمات الرواية الرمزية، كما فعل عبلة وعبد الغني، مستخدمين التجريد والإيماءة اللونية لالتقاط الجوهر لا الحدث. تلك المقاربة تُخرج الرواية من إطارها الورقي، وتعيد إنتاجها كذاكرة مرئية.
ولا يُقرأ المعرض بوصفه امتداداً للرواية، بل كإعادة خلق لها، كأنّ كل عمل فني بمثابة فصل غير مكتوب. ولا شك في أن انخراط الطلبة في هذا الحوار مع الكبار يُنتج حواراً آخر، بين الأجيال، أو بين المواهب الناشئة والخبرة المكرّسة. وهو ما أشار إليه الروائي إبراهيم عبد المجيد نفسه، الذي وصف المعرض بأنه "ليلة كالسحر، مفعمة بالتفاعل، ومحاطة بأرواح المدينة التي لم تنم، والتي تواصل العيش في النصوص واللوحات".
نُشرت الرواية للمرة الأولى عام 1996، وتدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة الإسكندرية، هذه المدينة الهامشية والمركزية في آنٍ معًا، والتي تستقبل الوافدين من الريف المصري، الهاربين من ضيق الحال أو لهيب الحرب. في قلب الحكاية، صداقة تنشأ بين مجد الدين، الشاب المسلم القادم من دلتا مصر، ودميان، المسيحي القادم من الجنوب. ورغم اختلاف خلفياتهما، تتشكّل بينهما علاقة إنسانية رفيعة، تتجاوز التوترات الدينية والاجتماعية المحيطة، وتتماسك في مواجهة الخراب. تأخذنا الرواية في رحلة بين شوارع الإسكندرية، ومحطات القطارات، ومقاهي الميناء، وبيوت الخواجات، فيما الحرب تقترب شيئاً فشيئاً من المدينة، وتغرقها في ظلال الغارات والفقد والتحوّل.
وقد انعكست هذه الروح الغنية للنص على تنوّع التجارب المشاركة في المعرض، حيث جمع بين أسماء معروفة في المشهد التشكيلي المصري وأخرى ناشئة. من بين الفنانين المشاركين: فتحي علي، ورضا خليل، ومحمد إسحاق، وجلال جمعة، وسعيد بدوي، وعزة فخري، ومنى عبد النبي، إلى جانب عمل خاص للراحل عصمت داوستاشي، الذي طالما أرّخ للإسكندرية في أعماله البصرية. هذا التنوّع، بين الأساليب والرؤى، خلق فسيفساء فنية حيّة، يتجاور فيها التعبير الواقعي بالتجريدي، والرمزي بالانطباعي، في محاولة جماعية لإعادة تشكيل المدينة كما سُردت، لا كما هي في الواقع.
ولا تقدم رواية إبراهيم عبد المجيد سرداً عن الحرب فقط، بل عن المجتمع السكندري في لحظة فارقة من تاريخه؛ عن المدينة حين كانت تحتفظ بعدُ بكسوتها الكوزموبوليتانية. عبد المجيد نفسه قال إنه قضى ست سنوات في كتابة الرواية، بين القراءة والمشي وزيارة أماكن الحرب. وربما لهذا جاءت الرواية محمّلة بتفاصيل حسية، بملمس الرمل، ورائحة الميناء، وصوت الأذان المتشابك مع ترانيم الكنائس. تلك الحسية الكثيفة هي ما ألهم الفنانين المشاركين في هذا المعرض، وهي أيضاً ما يجعل المعرض يتجاوز فكرة التكريم، إلى استعادة لفعل القراءة بوصفه رؤية، وللنص بوصفه لحظة تجريب.
