
قدّم توماس كون الذي ارتبط اسمه بفكرة النموذج المعرفي أكبر اجتهاد في كتابه المهم "بنية الثورات العلمية" (صدر في 1962، ونقله إلى العربية شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ديسمبر 1992)، ثم جاء تلامذته ليقدّموا أسلوباً منهاجياً للتعامل مع فكرته تلك، فمنهم من توقف عند تعريف النموذج المعرفي "البراديم" (paradigm)، ومنهم من انتقد تعريفه الذي تعدّد وتنوّع في سياق فكرته التأسيسية، في حين اتهمه فريق ثالث بأن تعريفاته المتعدّدة افتقدت معاني الجامعية والمانعية، كما هو في التعريفات وسماتها في علوم المنطق، ومن ثم أصاب الغموض المعنى؛ فإن كان التعدّد ربما يكون مقبولاً في أفكار عامة، فإنه لا يمكن قبوله في مفهوم مركزي بنى عليه نظريته التأسيسية في تحديد النماذج المعرفية، وهو ما جعله يردّ ويراجع المفهوم معترفاً أن ذلك تجوز منه في هذا المقام. وبدا له بعد ذلك أن يقدّم تعريفاً محدّداً في هذا المقام، مستدعياً مفهوماً آخر ضمن عمليات التداول المعرفي، وهو "MATRIX"، وكان ذلك مفتاحاً لهؤلاء من تلامذته الذين عكفوا على ذلك، فتحدّثوا عن مكوّنات أساسية وخماسية، نظن أنها كانت أساساً لمفهوم النموذج المعرفي؛ أولها أنه يحمل رؤية إلى الوجود والعالم؛ وجهازاً مفاهيمياً؛ وإطاراً تحليلياً ومنهاجياً وقواعد للتفسير؛ وإشكالات أجدر بالتناول.
هنا عليَّ أن أستدعي مفكراً آخر تقلب بين المذاهب والأيديولوجيات حتى استقر على قاعدة المرجعية الإنسانية الإسلامية المفارقة والفارقة للتعامل مع عالم الأفكار والحضارات والثقافات؛ ضمن تطويره وتطبيقه لفكرة النماذج المعرفية واتخاذها أداة نقدية مقارنة؛ وهو عبد الوهاب المسيري الذي أدخل باب النقد من أوسع الأبواب من خلال فكرته عن التحيزات المعرفية؛ فكان مع كتابات أستاذنا حامد ربيع الذي توقف عند مدخل التصنيف الحضاري متقدّماً على كتاب "صدام الحضارات" للأميركي صموئيل هنتنغتون. وبدأ ربيع والمسيري يقيمان صرحاً معرفياً لأصول المقارنة المنهاجية بين النماذج المعرفية والنماذج الثقافية والحضارية؛ متمتعين بوعي حضاري رصين ومكين؛ يعيد التفكير في المسألة الحضارية والنماذج المعرفية والغوص فيها للبحث في مكنونها عن التحيزات المعرفية الكامنة.
القراءة والتأويل لن يكون أبداً بمعزل عن دراسة التاريخ
وفي إجابتي عن سؤال ما للتراث وكل تلك القصص المعرفية والسرديات النماذجية؛ أرى أن مسألة التراث ومساءلته تقعان في قلب هذه السردية؛ وإن نموذج توماس كون يمكن أن يشكّل قاعدة معرفية للقيام بعمليات المساءلة وترشيدها؛ على قاعدة "الكلمة الحكمة"؛ يمكن لأي تكوين حضاري أن يتدبرها ويشغلها أنّى وجدها؛ وهو، بهذا الاعتبار، أحقّ وأوْلى الناس بها. ولعل إشارات في هذا المقام يمكن أن تقدّم مقدماتٍ شارحة ما نحن فيه وبصدده من منظور خماسية كون ونموذجه المعرفي الإرشادي؛ وما يؤدّيه لنا في مسألة التراث من الرؤية للتراث بوصفه جزءاً من منظومة رؤية العالم في إطار منهج نظر للمفاهيم الحضارية الكبرى، والإطار المفاهيمي للتراث وجهازه المفاهيمي، والقاموس التراثي واللغة الوسيطة، والإطار التحليلي للتراث أدوات ومداخل القراءة وتحليل النصوص والخطاب، والتوظيف التراثي، وكذلك الإطار التفسيري، وما يرتبط بذلك، المسألة التراثية، وحقيقة الفاعلية التراثية، وتأتي في النهاية الإشكالات الأجدر بالتناول؛ الخرائط التراثية، المكونات التراثية، عمليات التأصيل والتفعيل والتشغيل.
نموذج كون ونماذجية المسيري ومنهاجيته الحضارية في الكشف عن التحيزات المعرفية، كبيرها وصغيرها، بسيطها ومركبها، كامنها وظاهرها، وكذا مغزى التصنيفات الحضارية ومستلزماتها المعرفية والثقافية؛ تعني، ضمن ما تعني، مساءلة المقولات التراثية على مستوى المساءلة الزمنية (الماضي/ الحاضر/ المستقبل)، ومستوى القراءة النماذجية: معرفية، تاريخية، مفاهيمية، نظمية، حركية، فكرية، مستوى المسألة التراثية والمساءلة الإصلاحية. علينا أن نميز بين بقاء الحياة والإحياء وبقاء الجمود والسكون؛ ولكن الكلمات اشتبهت والتبست على بعضهم، حينما يجعل معنى البقاء أقرب إلى الركود والكسل؛ القراءة والتأويل لن يكون أبداً بمعزل عن دراسة التاريخ، التأويل دراسة ذاتية عصرية، إننا نسائل النصوص لنعرف مدى قدرتها على أن تتحدث إلينا.. قدرة النص لا تعني اختفاء المناقب بلا حساب، أحرى بنا أن نتذكّر أن الأمر هو إثارة سؤال لا تقرير جواب يُختار. إنه حرٌّ في أذهاننا من خلال تساؤلنا الذي لا ينتهي. نحن نصنع النصّ بعقولنا واهتمامنا وطرائق قراءتنا. نريد أن نحبّ تراثنا حبّاً بصيراً، لا حبّاً هشّاً ساذجاً، وأن نسائل تراثنا مساءلة الناقد البصير، المحبّ المعايش. ولا علاقة لإكبار النصّ بفكرة المدح، الإكبار الحق هو المشاركة في التساؤل، ليس هناك نصّ جيد وآخر رديء، ليس هناك إلا قراءة جيدة وقراءة رديئة فحسب، لتحاول باستمرار هذه القراءة العطاء؛ فيكون العطاء للنصّ ليس خيانة له؛ إنه فن إقامته من أجلنا، من أجل عافيتنا ومستقبلنا وقضايانا.
ليس هناك نصّ جيد وآخر رديء، ليس هناك إلا قراءة جيدة وقراءة رديئة فحسب
ما يضبط هذه المسألة العلاقة بين المسؤولية والمساءلة، باعتبار أن المساءلة ليست موقفاً دونياً من التراث، وإنما هي نقد التعامل التراثي من خلال التحليل وقراءة النصوص، وهي (المساءلة) ليست أحكاماً مسبقة، وإنما النقد التراثي ضمن موازين مرجعية، والانشغال بدور التراث فى استراتيجية النهوض الحضاري، وأنها كذلك ليست محاكمة أو اتهاماً، ونفي قراءة التخليط بين المصادر المرجعية والمصادر التراثية التي تمثل اجتهاداً بشرياً، ومن ثم نتساءل: متى تكون ظاهرة المساءلة صحية؟!؛ ففي إطار التعامل المنهجي مع التراث لا بد أن تراعى القواعد التالية:
أولاً، التراث الإسلامي بشري قابل للاجتهاد، والتجديد، وهو غير معصوم، لا تقديس ولا تبخيس كما يقولون. ثانياً، المنهاجية النقدية بوصفها استراتيجية في التعامل التراثي. ثالثاً، المنهاجية المقارنة ضمن عمليات التعامل مع الاختلاف والتنوّع، المقارنة أصلح سبيل لهذا الامتداد التراثي الإسلامي والإنساني. رابعاً، ضرورات اكتساب الأدوات المنهجية لمساءلة التاريخ. خامساً، إفضاء المساءلة إلى حالة منهجية متراكمة لا إقصاؤها إلى حالة من الاتهام والمحاكمة في إطار ناف للتراث. سادساً، مناهج النظر ومناهج التعامل ومناهج التناول ومناهج تكوين الباحث مقدمات أساسية للمقاربة التراثية الواعية والبصيرة ضمن منهجية تستشرف إحسان القراءة لا قراءة الإهدار سواء هدر التراث وكيانه، أو هدر التراث لطاقته وإمكاناته. سابعاً، منهاجية التغيير والتجديد (التغيير العمراني) والتجديد الثقافي والفكري في إطار بناء استراتيجية للنهوض الحضاري. ثامناً، التراث ضمن مشروع تأسيس للنهوض الحضاري، وضمن عمليات بناء الهوية ضمن عناصر الذاكرة الحضارية الجماعية الممتدة. تاسعاً، الوقوف على المناهج لا المسائل في إطار الساحة التراثية. عاشراً، اعتبار السياق منهجاً مأموناً في إطار عمليات التفعيل والتوظيف.
المساءلة ليست موقفاً دونياً من التراث، وإنما هي نقد التعامل التراثي من خلال التحليل وقراءة النصوص، وهي ليست أحكاماً مسبقة
تبني مراعاة القواعد السابقة رؤية حضارية للمساءلة ويكشف عن مآلاتها بصورة منهجية منضبطة تكون معاييرها قائمة على: الترشيد المنهجي للتعامل مع التراث (التوازن بين الإهانة والإهالة). الوعي التراثي: الثقافة والتثقيف الخروج من مواقع التجني البحثي إلى التحليل العلمي والمنهجي. إحسان القراءة التراثية والتدريب عليها. جودة التوظيف التراثي. الحضور الإيجابي الفعال للتراث (رافعة حضارية ـ النهوض). الاصطفاء التراثي (الاستدعاء التراثي). تجديد الخطاب العربي الإسلامي. بناء الإستراتيجية التراثية للتعامل المستقبلي. إنهاء الحروب التراثية وعمليات التفاني ومذبحة التراث. حل إشكالية العلاقة بين التراث وتحريك الواقع (الفعالية التراثية). الاستثمار التراثي وتحويل الإمكانات التراثية إلى قدرات للنهوض والعمران. إحياء المفاهيم الدافعة للعمران، الرافعة للنهضة الدافقة للحياة، المؤسسة للفاعلية (قاموس النهوض الحضاري). تأسيس أصول مرجعية معيارية (الميزان التراثي). التراث وإعادة تشكيل العقل المسلم وثقافة الأدمغة المفخخة. الخروج من حال المساجلة بالتراث وفيه وله إلى حال المساءلة المنهجية البصيرة. الحضور الإنساني للتراث الإسلامي. الإحالة التراثية ومناهج التحليل والقراءة الرصينة. ميزان الأولويات التراثية. الإسناد التراثي والرحم الحضاري (الذاكرة الحضارية). التراث: الساحة والمساحة المعروفة والمتعارف عليها من التراث (عملية اجتهادية، إحيائية تجديدية). التحدّي للتراث وجملة تحدّيات النهوض ضمن أصول (الفاعلية التراثية).
... ولا تزال المسألة التراثية تلقي علينا أسئلتها ومشروع إجابة عنها.

Related News

