الأغراض غير السّرية للموسيقى
Arab
2 days ago
share

لكل شيء تاريخه السّري، الذي يرافقه جنباً إلى جنب مع تاريخه المعلن. وما أكثر الأشياء التي صارت جزءاً من حياتنا، ولم نسأل أنفسنا عن تاريخِها قط، أو كيف خطرت فكرةً في ذهن أوّل مكتشفٍ لها. رغم أن معظمنا يحبّ الأسرار، فما من شيء أكثر متعة من اكتشافها... أو أكثرَ صعوبة من إخفائها. ولا تسَل عن تلك القشعريرة التي تسبق اكتشاف سرٍّ من أسرار الحياة... مع ذلك، هناك أمور كثيرة لا نعرفها ونحن نظن أننا نفعل، أو لا نكلف أنفسنا عناء التوقّف عندها لاكتشاف أسرارها المنبثقة كبتلات وردة، رغم أنها أمامنا دائماً.

ورغم حفاوة الإنسانية بالموسيقى، اختلفت الآراء في عمرها مقارنةً مع عمرِ الإنسان. إذ تشير الاكتشافات الأثرية للعصر الحجري القديم إلى أنّ إنسانَ ما قبل التاريخ استخدم أدوات نحتٍ لصنع الآلات الموسيقية. ووجد علماءُ الآثار آلةَ مزمار منحوتة من عظم فخذِ دبّ الكهوف تعود إلى العصرِ الحجري. ووُجد الناي قبل 40 ألف عام على الأقل في حضارة وادي السِّند.

لعل الإنسانَ صنع الآلات الموسيقية بعد فترة وجيزة من وجودهِ على الأرض. لكن بعض المعتقداتِ الصّينية القديمة آمنت بأنّ الموسيقى نشأت قبل وجودِ الإنسان على الأرض. والمقصود بذلك الأصوات الطبيعية. من غناءِ الطيور، وهديرِ الأمواجِ، وخريرِ الأنهار. فيما يرى آخرون أنّ أصل الموسيقى يعود إلى لحظة اكتشاف الإنسان البدائي أقدمَ آلةٍ موسيقية، وهي "حنجرته"، ثم قلد أصواتَ الطبيعة، ووصل إلى مرحلة تدرّج فيها من الصّيحات، والدّقِ على الأخشابِ، إلى استخراج أصواتٍ أكثر تهذيباً.

واستعمل الإنسان القديم جلودَ الحيوانات التي شدّها على جذوع الأشجارِ اليابسة المجوّفة، ليصنع الطبول في شكلِها البدائي. وحفر في فروع الأشجار ثقوباً تعدّدت الأصوات التي تخرج منها. والأطرف أن العرب استعملوا الماء كآلة موسيقية. ويُعتبر الجزري أهمهم، وهو الذي اخترع قارباً له مجذافان وذيل. عند تحريكه، يُصدر الماء إيقاعات مختلفة، قد تصل إلى أربعين لحناً.

وعلى الرغم من كثرةِ الشخصيات البارزة التي اعتنت بالموسيقى، إلا أن محمد أبي نصر الفارابي من أشهرها، فقد ترك مؤلفاتٍ كثيرة، مثل "كتاب الموسيقى الكبير" و"كلام في النقلة وكلام في الموسيقى".

ورغم الرأي المتعارف عليه بأن الموسيقى وسيلة ترفيه، إلا أن لها فوائد أخرى غير التّرفيه عنا، بعضها مُعلَن والبعض الآخر سرّي، فيُنصح بالموسيقى في العلاج النفسي، منذ كتاب "القانون في الطب" لابن سينا، وفي رسائل إخوان الصفا. بينما استعملتها بعض القبائل البدائية لطرد الأرواح الشريرة. وحين ظهرت الحركات الصوفية أدمجت الموسيقى بطقوسها وسمّتها "الفن السماوي".

بعد ذلك، اتّخذت الموسيقى شكلاً جديداً، وتنوعت بين الأناشيد والابتهالات والموشّحات التي تُغنّى في المجالس الدينية. فاستعملتها الكنيسة ضمن طقوس القداس، على شكل تراتيل نصوص دينية مع إيقاعات كورالية وموسيقية، فيما يمتد تاريخ الموسيقى اليهودية الدينية إلى العصور التوراتية.

وكان العرب في الجاهلية إذا حجّوا البيت الحرام طافوا حول الكعبة وهم يصفرون ويصفّقون. واستخدم بعضهم الموسيقى لأغراضِ السّحر والشّعوذة. واستُعين بها لاستجداءِ الأمطار في مواسم الجفاف، واستعملت كشيفرة سرّية.

شخصياً ألجأ إلى الموسيقى لإشغال ذهني عن الضجيج خارج البيت، أو حولي في الفضاء العام. فالموسيقى حاجز صوتي ضروري في حياة كثيرة الضجيج. وما من حل أنجع منها خلال ما نقضيه من وقت في القطار أو الطائرة أو الحافلة أو المقهى أو المكتب.

لا أمان من الخطر الصوتي سوى جدار سميك من الأصوات التي تحبّها التي تتخلل سماعاتك، والتي يفترض أن تكون هادئة ومنتظمة، على عكس الفوضى الصوتية المحيطة. فالضجيج قد يكون أقسى من الألم، بل هو الألم الأقسى أحياناً، فقد استعملت الموسيقى في تعذيب السجناء في معتقل غوانتانمو، مثلاً، بتعريضهم لأغاني فرقة الموسيقى الإلكترونية الصناعية المعروفة بالسكني بوبي، والمشهورة بموسيقاها الصاخبة. ويكفي أن نعرف أن هذه الفرقة رفعت دعوى أمام المحاكم تطالب فيها البنتاغون بعوائد مقابل استعمال موسيقاها في التعذيب، لندرك فداحة الأمر، وننتبه إلى قوة الموسيقى، وإلى أنها تتجاوز الترفيه البسيط.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows