
تدفع الأزمة المعيشية في تونس طلبة البكالوريا نحو اختيارات جامعية تراعي الظروف المادية لذويهم، بينما يبقى أبناء العائلات الميسورة الأكثر حظاً.
مع انتهاء مرحلة الامتحانات الوطنية وإعلان نتائج البكالوريا، تبرز أمام عائلات الطلاب الناجحين تحديات جديدة لاختيار التوجيه الجامعي وفق المقاييس التي تضعها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، التي تعتمد أساساً على حاصل المعدل الذي يحققه الطالب في المناظرة.
وفي ظروف اجتماعية واقتصادية متقلّبة، يجد الحاصلون على شهادة البكالوريا أنفسهم أمام تحديات أخرى تؤثر على اختياراتهم الأكاديمية خلال المرحلة الجامعية، من أبرزها كلفة الدراسة وقدرة الأسر على تلبية احتياجات أبنائها خلال سنوات الدراسة، ورغم أن الجامعات الحكومية تؤمّن نظريّاً تعليماً مجانيّاً للناجحين في البكالوريا، إلّا أن كلفة الدراسة في مرحلة ما بعد البكالوريا أصبحت هاجساً مقلقاً للأسر التي تدفع بأبنائها في أغلب الأحيان إلى اختيار توجيه جامعي يُفضي بهم إلى سوق العمل بأقل كلفة ممكنة، حتى وإن كانت التخصّصات بعكس أحلامهم ورغباتهم الخاصة.
ويقرّ غسان عسالي (20 عاماً) الذي حصل على شهادة البكالوريا في اختصاص العلوم التقنية بمعدل 15/20 بانشغاله بأمر التوجيه الجامعي، مؤكداً أنه يفكر جديّاً في التخلي عن حلمه بالالتحاق بإحدى كليات الهندسة، والاكتفاء بالالتحاق بالمعهد العالي للدراسات التكنولوجية في المحافظة التي يقطن بها.
ويقول الشاب العشريني في تصريح لـ"العربي الجديد": "اجتهدتُ كثيراً خلال العام الدراسي المنصرم حتى أحصل على معدل جيد في شهادة البكالوريا يسمح لي بالالتحاق بإحدى كليات الهندسة، لكن بعد إعلان النتائج صرتُ أكثر واقعية، أفكّر جديّاً في اختصار مرحلة التعليم الجامعي عبر الاكتفاء بدراسة اختصاص الميكانيك في معهد التكنولوجيا"، ويضيف: "يحتاج الالتحاق بكلية الهندسة إلى نفس طويل ومصاريف كبيرة من بينها كلفة الإيجار والتنقل، ما يعني إلزام عائلتي بتحمّل تلك المصاريف طيلة خمس سنوات من مدة الدراسة، ونحن أسرة متواضعة الإمكانيات".
لا يرغب غسان في إحراج أسرته التي قد تعاني الضيق المالي خلال فترة دراسته، وفق قوله، خصوصاً أن إخوته يتابعون تعليمهم في المرحلة الثانوية ويحتاجون كذلك إلى نفقات دراسية لا تستطيع عائلته توفيرها، ويؤكد أن الاكتفاء بدراسة الميكانيك في المعهد العالي للدراسات التكنولوجية لن يكون إلّا مرحلة أولى في حياته الجامعية، مشيراً إلى أن هذا الاختيار يفتح له آفاقاً مضاعفة بدخول سوق العمل وبإمكانية استكمال دراسته للحصول على شهادة الهندسة في مرحلة لاحقة.
وعادة ما تحثّ الأسر التونسية أبناءها المُقدِمين على المرحلة الجامعية وتدفعهم نحو اختياراتٍ دراسية أكثر أماناً، مثل التعليم أو الهندسة، حتّى وإن كانت بعيدة عن شغفهم وذلك لضمان وظيفة مستقرة بأقل كلفة ممكنة. وعموماً، يجد الطلبة القادمون من المحافظات الداخلية الأقل تنمية صعوبة في الوصول إلى جامعات نوعية أو توجيه ملائم، ما يزيد الإقبال على التعليم التقني الذي لا تتعدى فيه مرحلة الدراسة ثلاث سنوات.
وفي تونس تجري عملية التوجيه الجامعي للطلاب الحاصلين حديثاً على شهادة البكالوريا حسب معدلاتهم من خلال منظومة مركزية، غير أن الإمكانيات المادية للأسر وقدرتها على تأمين مصاريف الدراسة الجامعية صارت خلال السنوات الأخيرة من العوامل المحددة لعملية الاختيار.
ويؤكد المستشار العام في الإعلام والتوجيه الجامعي مهدي مبزعية أن عملية التوجيه الجامعي تُحدّد نظريّاً وفق عاملَين رئيسيّين؛ هما المعدل العام للطالب وطموحاته في فترة ما قبل البكالوريا، ويقول لـ"العربي الجديد" إن عوامل أخرى تلعب دوراً هاماً في عملية التوجيه الجامعي من بينها الاقتدار المالي للأسر، لافتاً إلى أن شريحة واسعة من العائلات تدفع بأبنائها إلى ما يُسمّى بالاختيارات الآمنة والأقل كلفة، ومن أبرزها شعب التدريس (تخصّصات التعليم) والأكاديميات العسكرية، ويضيف مبزعية: "قد تتعارض اختيارات الأسر مع الرغبات الحقيقية لأبنائها، وهو ما يُجبر مستشاري الإعلام والتوجيه الجامعي للتدخل من أجل إقناع الأهالي بجدوى اختيارات أبنائهم، وذلك بناء على تقييم قدراتهم العلمية والنفسية أيضاً".
ويرى مستشار التوجيه الجامعي أن كلفة الحياة الجامعية عموماً قد تمثل عائقاً أمام العديد من الطلاب في تحقيق أمنياتهم بالالتحاق بالتخصّصات التي تحتاج إلى نفس طويل أو التسجيل في الجامعات الخاصة التي تحظى بسمعة جيدة. ويُقدّر الكلفة الشهرية للطالب في جامعة حكومية بنحو 600 دينار أي ما يعادل نحو 205 دولارات أميركيّة موزّعة بين تكاليف الإيجار ونفقات النقل والمصاريف الخاصة، وهي كلفة يصفها بالمرتفعة مقارنةً بمتوسط دخل الأسر التونسية.
وكشفت بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي عام 2023 أن معدل الرواتب الشهرية لنحو 670 ألف تونسي يعملون في القطاع الحكومي لا يتجاوز 1387 ديناراً (ما يعادل نحو 475 دولاراً أميركيّاً) في الشهر، ينفقون 40% منها على الطعام والتنقل. وأبرزت الدراسة الصادرة عن معهد الإحصاء أن حجم الزيادات في الرواتب التي حصل عليها الموظفون خلال الفترة الممتدة ما بين الأعوام 2015 و2022 تُقدّر بقيمة 471 ديناراً (نحو 161 دولاراً أميركيّاً). وعموماً يبلغ متوسط الأجر الشهري في تونس نحو 924 ديناراً (نحو 316 دولاراً)، وهو ما يعادل تقريباً ضعف الحد الأدنى للأجر المضمون. ومع ذلك، يُعتبر هذا الدخل منخفضاً نسبيّاً مقارنة بتكاليف المعيشة المتزايدة في البلاد.
تشير تقديرات أخرى إلى أن العائلة التونسية المكوّنة من أربعة أفراد قد تحتاج إلى ما لا يقلّ عن 2800 دينار تونسي شهريّاً (نحو ألف دولار أميركي) لضمان مستوى معيشي لائق، وهو مبلغ لا يشمل تكاليف الترفيه أو الدروس الخصوصية.
وينتقد مستشار التوجيه الجامعي الممارسات التربوية المبنية على الضغط والمقارنة، ويقول: "العديد من أولياء الأمور يربّون أبناءهم على المقارنة وممارسة الضغط عليهم للدخول إلى شعب (اختصاصات) معيّنة، على حساب رغباتهم وسلامهم النفسي وهو ما ينعكس سلباً على أداء الطالب ونجاحه وسعادته لاحقاً".
عموماً تدفع الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة في تونس طلبة البكالوريا نحو اختياراتٍ "محسوبة" بدلاً من اختياراتٍ تعبّر عن شغفهم. ويزداد الأمر ضيقاً وسط التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، إذ غالباً ما يكون أبناء العائلات الميسورة أكثر حظّاً في الحصول على نتائج دراسية جيدة والتوجه نحو التخصصات "النخبوية".

Related News
