
تشهد العاصمة الليبية طرابلس أجواء مشحونة وتوتراً مكتوماً وسط أنباء متواترة وتحركات غير معلنة تنذر باحتمال شن حكومة الوحدة الوطنية عملية عسكرية ضد مجموعات مسلحة داخلها. وأفاد شهود عيان "العربي الجديد" بحركة انتقال متقطعة لأرتال من العربات المسلحة، قادمة من مدينة مصراته باتجاه معسكرات جنوب طرابلس مستخدمة الطرقات الزراعية المارة بمدينة ترهونة جنوب شرق العاصمة. كما أفاد آخرون بوصول أرتال مماثلة إلى معسكرات منطقة تاجوراء، الضاحية الشرقية لطرابلس، في مؤشر على تعزيز عسكري مكثف في صفوف قوات الحكومة.
وتزامنت هذه التحركات مع بيان مفاجئ أصدرته البعثة الأممية في ليبيا، في وقت متأخر ليل البارحة، حذرت فيه من خطورة الوضع. وحثت البعثة في بيانها جميع الأطراف على "الامتناع عن استخدام القوة، لا سيما في المناطق المكتظة بالسكان، وتجنب أي تصرفات أو خطابات سياسية قد تؤدي إلى التصعيد أو تتسبب في اندلاع اشتباكات جديدة"، مشددة على ضرورة التزام جميع الأطراف بحماية المدنيين بموجب القانون الدولي. وفيما حذرت البعثة مرتكبي الاعتداءات من أنهم سيكونون عرضة للمحاسبة، طالبت بضرورة انسحاب "القوات التي تم نشرها أخيراً في طرابلس دون تأخير".
وفي خطوة تبدو أنها تأتي في سياق محاولات احتواء الموقف، قال المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي إن رئيسه محمد المنفي عقد اجتماعاً طارئاً اليوم الخميس، بصفته القائد الأعلى للجيش، مع لجنتي الهدنة والترتيبات الأمنية والعسكرية، للتباحث حول "الوضع العملياتي الراهن والتحديات الأمنية التي تواجه العاصمة، مع عرض تقارير ميدانية دقيقة تعكس واقع الأوضاع الأمنية". وذكر بيان المكتب الإعلامي أن المنفي وأعضاء اللجنتين اتفقوا على تعيين آمر لقوة إسناد مديرية أمن طرابلس بشكل سريع لتعزيز استقرار العاصمة. ونقل البيان عن المنفي تأكيده ضرورة الالتزام الصارم بالتعليمات العسكرية والبلاغات الصادرة عنه، خاصة في ما يتعلق بأي تحركات عسكرية. وشدد على أنه يجب أن تتم بأمر مباشر ومسبق منه لضمان الانضباط وتوحيد القرار العسكري.
ويأتي هذا التصعيد المتسارع في أعقاب حديث لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة مع تلفزيون محلي ليل الأحد الماضي، جدد فيه هجومه على ما سماها "التشكيلات المسلحة الخارجة عن الدولة"، والتي اعتبرها "دولة داخل الدولة" لامتلاكها أسلحة تفوق ما تملكه الدولة وتستخدمها لابتزاز الأجهزة الرسمية وتهريب أسلحة بالطائرات من دول أخرى دون علم مؤسسات الدولة، على حد قوله. وفيما اعتبر الدبيبة أن ما تقوم به هذه المجموعات "انقلاب على الدولة"، أشار في حديثه إلى أنه يقصد "قوة الردع الخاصة"، معلناً أنه وضع أمام هذه القوة شروطاً لتجنب المواجهة المسلحة، وهي تسليم المطلوبين للنائب العام، وإخضاع المطار والميناء والسجون لسلطة الدولة.
وحذر الدبيبة من أن من يرفض هذه الشروط "لن أضمن ما سيحدث له، ومن لا يريد أن نشن حرباً ضده فعليه أن يمتثل للدولة ومؤسساتها وقوانينها". بل وأكد استمرار خطته الأمنية التي أطلقت منتصف مايو/أيار الماضي وتمت خلالها إطاحة "جهاز دعم الاستقرار"، قائلاً: "ماضون في خطتنا الأمنية، ولن نتراجع عن تفكيك المليشيات والتشكيلات المسلحة". وأضاف: "حان الوقت لاسترجاع الدولة ولن نترك مطاراً أو ميناء أو سجناً خارج سيطرتها"، في إشارة واضحة لقوة الردع، التي تسيطر على المطار والميناء في طرابلس وتدير أكبر السجون.
وفي تزامن لافت مع التوتر العسكري المكتوم، أعلنت حكومة الوحدة الوطنية عن توقيعها اتفاقية تعاون عسكري جديدة مع الجانب التركي، اليوم الخميس، خلال لقاء ضم وكيل وزارة الدفاع بالحكومة عبد السلام زوبي ووزير الدفاع التركي يشار غولر، في أنقره. ووفقا لبيان الحكومة، تهدف الاتفاقية إلى "رفع قدرات الجيش الليبي كأولوية أساسية في برنامج التطوير المؤسسي"، وتشمل بنودا للتعاون في "مجالات التدريب العسكري المتقدم، وتبادل الخبرات، والدعم الفني واللوجستي، بهدف تعزيز الجاهزية والكفاءة المهنية في صفوف الجيش الليبي".
وتعود جذور التوتر الحالي بين الحكومة و"جهاز الردع" إلى منتصف مايو الماضي، عندما شنت قوات الحكومة هجوماً على مقر الجهاز في قاعدة معيتيقة، بعد وقت قصير من إطاحتها "جهاز دعم الاستقرار"، حيث سعت الحكومة آنذاك إلى إسقاط "الردع" أيضاً، لكنها أعلنت لاحقا عن هدنة تحت ضغط شراسة القتال. لكن التصعيد الحكومي استمر، حيث أصدرت قرارات بإقالة أسامة نجيم، أحد أبرز قادة "الردع" والذي يدير سجن الجديدة، كما دعمت الحكومة تنفيذ الإجراءات التي أعلنها المجلس الرئاسي، مطلع يونيو/حزيران الماضي، الخاصة بتشكيل لجنة أمنية وعسكرية مشتركة مؤقتة من وزارتي الدفاع والداخلية، مهمتها إخلاء طرابلس من المظاهر المسلحة وتمكين القوات النظامية. وطالبت صراحة بتسليم السجون والمطارات والموانئ، في إشارة الى المنشآت التي تسيطر عليها قوة الردع.
وفي محاولة أخرى لاحتواء الأوضاع وتخفيف حدة التصعيد، أعلن مكتب النائب العام عن إطلاق "جهاز الردع" سراح العشرات من المعتقلين لديه، كما خاطب وزارة العدل "برفع القيد القانوني" عن نجيم للبدء بالتحقيق معه في التهم المنسوبة له من محكمة الجنايات الدولية، التي تستند الحكومة إليها في اتهاماتها له بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق داخل سجن الجديدة الذي يديره بشكل مستقل عن الحكومة. وأعلن مكتب النائب العام، أمس الأربعاء، نتائج التحقيق في ملابسات الاشتباكات المسلحة في طرابلس منتصف مايو الماضي، موضحا أنها أسفرت عن وفاة 20 شخصاً، بينهم 15 مدنياً، وفرار 461 شخصاً من السجون، وخسائر واسعة في الممتلكات الخاصة والعامة.

Related News


