العابرون في عالم النساء
Arab
3 days ago
share

"الهوية الجندرية" موضوعٌ ما زال يبحث عن حضوره؛ ثيمةً روائيةً عربيةً، إذ يُطل على استحياء بظهوراتٍ متقطعة، تبرق على فترات عبر رواياتٍ يثير بعضُها قدراً من غبارٍ وجدل، ثم تخبو الثيمة وتنسحب، لسنواتٍ أحياناً، رغم أن القضية نفسها لا تخمد على الأرض، بل تكسب مساحات ظهور متزايدة في المجتمعات العربية خلال العقد الأخير بخاصة، مع ما أتيح إعلامياً من سيولةٍ أكبر في الإفصاح استوعبتها مواقع التواصل، بالتزامن مع محاولاتٍ مجتمعيةٍ متزايدة لا سيّما بعد ثورات الربيع العربي لتوسيع الهامش، الضيِّق والشائك أصلاً، الذي يتحرك فيه مجتمع الميم العربي.

الحصيلة الروائية العربية لا تزال شحيحة، ظلّ نصُّ المرأة فيها أشد مركزية وإثارةً للأسئلة، ربما لأنه أنتج نصوصاً أكثر تورطاً في الجانب الوجداني لشخصية الحائرين في الانتماء الجندري على حساب الغائية الإيديولوجية، وربما لانسجام الصوت النسوي مع القضية في مواجهة السلطة الأشرس وهي المجتمع الذكوري الأبوي، فاستأثرت بالريادة رواياتٌ نسوية، إذ ظهرت مبكراً رواية "طرشقانة" سنة 2006 للروائية التونسية مسعودة بو بكر، وتلتها، وإن بعد سنوات ليست بالقليلة، رواية "انعتاق الرغبة" للمغربية فاتحة مرشيد، عام 2019.

ما يحدق بالعابر من خطرٍ في الأدب هو نفسه في الواقع

اللافت، أن هاتين الروايتَين الرائدتَين تحقَّق فيهما العبور، ليتمحور المأزق الروائي حول تبعاته، بينما العكس بالضبط هو ما يمثل مأزق روايتَين حديثتَي الصدور، لكاتبتَين أيضاً، مصريتَين هذه المرة، هما "اليد العليا" لإيمان جبل و"المشي على قدم واحدة" لمونيكا نبيل عزيز، إذ تقاربان شخصية العابر وقوفاً عند العتبة، وتنتهيان به دون أن يعبرها. فهل تراجَع توقُ التحرر روائياً رغم تقدم السنوات للأمام؟

التفتت رواية "انعتاق الرغبة" إلى تساؤل ما بعدي شديد الخطورة، يخصّ الامتداد: الابن الذي أصبح أبوه امرأة، وقد بات يملك أمَّين، إن جاز التعبير، فيما لا وجود لأبيه سوى كاسمٍ اندثر جسدُه مع انسلاخه من عز الدين وحياته الجديدة كعزيزة. إنّ الفرضية، على معقوليتها، تنتج جنونها، لتنسج من شخصية العابر محطة انطلاق بحثاً عن التبعات، التي تؤشر في منحى خطر وعميق إلى التباس سؤال الفردية والاختيار بنسقٍ يتجاوز صاحبه قسراً.

بالمقابل ذهبت "طرشقانة" إلى المراوحة الهوياتية بين شرق تونس، وغرب فرنسا لتجعل من التمزّق بين العالمَين معادلاً للتمزق بين الهويتَين: ذكر/ أنثى. ثمّة مراد في تونس الذي سيتحول إلى ندى في فرنسا، وثمة، تقنياً، التوسُّل بالميتا سرد لتعرية القصة أمام نفسها في نصٍ ذاتي الانعكاس، حين تصير قصة تحوُّل مراد نفسها رواية داخل الرواية تكتبها الصحافية نورة. هنا، يُوظف الميتا سرد بوصفه موقفاً نقدياً من فكرة الإيهام، لتعميق إشراك المتلقي في المروية؛ فاعلاً واعياً، متورطاً وربما مُداناً، وليس محض مستهلكٍ لقصةٍ تنتمي للخيال.

في "اليد العليا"، لجأت المصرية إيمان جبل إلى اقتراحٍ ثوري، باختبار الارتباك الهوياتي خارج الولع بفضّ الالتباس. تعرض الرواية صوتَي الذكر والأنثى بالتناوب، ممثّلَين في فاني وموسى، إذ يتبادلان السرد، كفرعيّ صوتٍ واحد، ليكملا معاً انسجام السردية، وكأنَّ هذا التنافر الواقعي هو نفسه شرط وجود ذاتٍ تخييلية مكتملة، ما يضعنا أمام سؤال آخر يُعمِّق إشكالية هوية النص: أهي سردية أحادية السارد، أم مزدوجة الرواة؟

نحن هنا أمام منطقٍ يتبنّى التهجين عوض أن يحاول التملّص منه أو حذف أحد طرفيه، كأنّما ليطعن النقاء الهوياتيّ المبتغى، وكأن الذات المنقسمة يمكن أن تتحول إلى ذاتٍ جامعة، بحيث تغدو المراوحة الجندرية مسرحاً لتأويلٍ شعري، يتجسد توقاً لمغادرة سجن النوع برمته. وربما تجيء صياغة النص، باختيار الميتارواية مجدّداً، لتؤكّد تعرية الإيهام وتعميق الهجنة، فيغدو المنفى الذي يُزج بالبطل/ـة إليه دالاً مُرجأ الدلالة، مموهاً بين كونه السجن، وكونه الخلاص، ليتسع تذويب الثنائية: ذكر/ أنثى، إلى تذويب ثنائيةٍ لا تقل خطورة: فرد/ سلطة.

قلق هوية ينعكس على النوع الأدبي نفسه واللغة السردية

في رواية "الوقوف على قدم واحدة"، تقدّم مونيكا نبيل عزيز عالماً واقعياً يقف على أرض التوثيق. الرواية تتموضع مكانياً في مؤسّسة مصرية تُقدِّم العون النفسي للاجئين مجاناً. تأكيداً على إيهامها بالواقع، يجري إخفاء اسم اللاجئ السوري الطامح في العبور، ليُشار إليه بـ ***، كأنه تأكيدٌ على خطورة ذكر الاسم الحقيقي، ولينفتح الشرطُ النصي تماماً على الشرط السياقي، ليصير ما يحدق بالعابر من خطرٍ في الفن هو نفسه ما يحدق به في الواقع.

يميّزُ روايةَ مونيكا طرحُها لشخصية العابر عبر انقسامٍ موازٍ في وجهة النظر، لتُقدَّم عبر زاويتَين من خلال تبدِّل الراوي: فهي تظهر من خلال وعي الساردة الذاتي (ميسون، المعالِجة) بالشخصية في مواضع، ومن خلال ساردٍ خارجي في مواضع أخرى، وكأنها حيلة فنية لتعميق فكرة الانقسام والتوزع، بين صورة الضحية على الوعي المباشر لذات أخرى "امرأة تحديداً"، وصورتها المحايدة المرصودة عبر وعيٍ موضوعي، يحيل تلقائياً في حالة السارد الخارجي إلى وعيٍ ذكوري. تنتهي الشخصية بالانتحار، وهي نهاية مغلقة لا تحتمل التأويل، تُخالف الفضاء المفتوح والملتبس للعابر في رواية إيمان.

ثمة ملحوظة جلية تنسحب على هذه المرويات على اختلافها، لا تنفصم عن موضوعاتها، إذ يسيطر قلق الهوية على أشكالها الفنية نفسها، بحيث تشهد تأرجحاً جندرياً موازياً، يخصّ النوع الأدبي نفسه واللغة السردية، فتبدو كأنما نشأت متململةً داخل هويات مزدوجة فنياً، تُراوح بينها، محاوِلةً مع العبور بشخصياتها، العبورَ بنفسها من نوع إلى آخر. فيما تُراوح "طرشقانة" بين اللغات، متأرجحةً دون هوادة بين فصحى ودارجة تونسية وفرنسية ابتغاء الرسو على هويةٍ لسانية، تراوح "انعتاق الرغبة" و"اليد العليا" بوضوح بين السرديّ والشعريّ، والروائيتان شاعرتان بالأساس، متأرجحةً بين تجسيدٍ وتجريد، بين سيولة حكي بلغة التداول، وتأملات مجردة بلغةٍ منكفئة تحتفي بأمامية الدوال، تهيمن على مساحاتٍ ليست بالقليلة، لتنهض بالشعري لغةً وأفقاً. وكلتا الروايتَين، وإن حققت في النهاية روائيتها، فإنها تظل مشوبةً بهذا الانزياح الشعري.

 

* كاتب وروائي من مصر

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows