
يشهد قطاع النقل والخدمات اللوجستية في السعودية تحولاً جذرياً وسط مشروعات توسعية تستهدف جعل المملكة مركزاً محورياً للنقل في المنطقة، بينما يتوقع أن تشتد المنافسة مع دول أخرى في الخليج، لاسيما جبل علي في دبي بالإمارات العربية المتحدة.
ووفق تقرير لشركة بافكو الدولية لخدمات الشحن والنقل المحدودة "BAFCO International"، نشرته على موقعها الإلكتروني، فإن الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية للنقل وتطوير الموانئ وتوسيع شبكات الربط البري والبحري في المملكة، من شأنها أن ترفع كفاءة سلاسل الإمداد وتقلل من التكاليف التشغيلية، فضلا عن انعكاس ذلك على أسعار السلع الأساسية والغذائية في الأسواق الخليجية.
ويربط خبراء هذه الاستثمارات بما كشفته الهيئة العامة للطيران المدني في السعودية، في تقرير أداء الحركة الجوية الذي أصدرته في فبراير/شباط الماضي، والذي سجل وصول عدد الرحلات الجوية عبر مطارات المملكة خلال العام 2024 إلى نحو 905 آلاف رحلة بزيادة 11% مقارنة بعام 2023، منها 431 ألف رحلة جوية دولية، فضلا عن تسجيل الشحن الجوي نمواً استثنائياً بنسبة 34% ليصل إلى أكثر من 1.2 مليون طن خلال عام 2024. وسجل العام ذاته ارتفاع حجم سوق الخدمات اللوجستية من 19 مليار دولار في 2016 إلى 136.3 مليار دولار عام 2024، مع توقعات بوصوله إلى 198.9 مليار دولار بحلول 2030، وفقا لما أورده تقرير نشرته منصة "Shipa Delivery" المتخصصة في خدمات الشحن.
كما أن تطوير الموانئ السعودية واعتماد أنظمة رقمية متقدمة لإدارة حركة الشحنات، مثل ما حدث في ميناء الملك عبدالله على ساحل البحر الأحمر شمال مدينة جدة، أديا إلى تقليص أوقات عبور البضائع بشكل ملحوظ، ما ينعكس إيجاباً على سرعة وصول السلع للمستهلكين والمشاريع الصغيرة على حد سواء، بحسب تقرير "بافكو".
وأكد خبيران لـ"العربي الجديد"، أن هذه التحولات من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من الانسيابية في تدفق البضائع، وتقليص الاعتماد على موانئ وسيطة، ما يعني تقليل التكاليف المرتبطة بالتخزين وإعادة الشحن، وهو ما يصب في مصلحة المستهلك النهائي والمشاريع الصغيرة التي تعتمد على سرعة التوريد وتقلبات الأسعار. كما أن ربط الموانئ السعودية بشبكات السكك الحديدية والطرق السريعة سيقلل من أوقات الشحن بين السواحل الشرقية والغربية للمملكة من أيام إلى ساعات، ما يعزز من مرونة واستدامة سلاسل الإمداد في المنطقة.
وقال الخبير الاقتصادي، جاسم عجاقة، لـ"العربي الجديد"، إن المملكة تسعى بجدية لأن تكون مركزاً لوجستياً عالمياً للنقل والشحن، ضمن هدف استراتيجي لرؤية 2030، مضيفا أن هذا التحول له انعكاسات مباشرة على الاقتصاد السعودي، خاصة في ما يتعلق بتقليل كلف الشحن والنقل، سواء بالنسبة للبضائع الداخلة إلى السوق المحلية أو تلك التي تمر عبر المملكة في طريقها إلى وجهات أخرى، وهذا الانخفاض في الكلفة ينعكس بشكل إيجابي على أسعار السلع المستوردة، بشرط ألا يكون هناك احتكار أو تلاعب في السوق.
ولفت إلى أن وجود مركز لوجستي كبير في الخليج يعني توفر مصادر متعددة للواردات، ما يعني إمكانية تعويض الدول عند حدوث أي تعطل في أحد الممرات، ما يؤدي إلى ضبط أفضل لأوقات التسليم وتسريع عمليات استيراد البضائع، سواء كانت موجهة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة أو للمستهلك النهائي.
ورأى أن زيادة عدد المراكز اللوجستية الكبرى في الخليج لا يؤشر بالضرورة إلى تنافس سلبي، بل هو خطوة تخدم المستهلك الخليجي بشكل عام، فالمنافسة إذا ما تمت إدارتها بشكل مدروس، تدفع نحو تحسين الخدمات وزيادة الكفاءة التشغيلية. لكنه أشار إلى أن افتتاح مراكز لوجستية جديدة في السعودية قد يؤثر على حصة بعض الموانئ التقليدية مثل جبل علي في دبي، غير أنه في الوقت نفسه يفتح المجال للاستثمارات المشتركة بين دول الخليج، ويخلق فرصا للتعاون والتشارك التجاري، بدل المنافسة العدائية غير المجدية، حسب تقديره.
وفي السياق، أشار الخبير الاقتصادي، علي سعيد العامري، لـ"العربي الجديد"، إلى أن مشروع "الممر الاقتصادي" الذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا يمثل خطوة استراتيجية على طريق تحول السعودية إلى مركز لوجستي عالمي، من شأنها أن تقلل تكاليف الشحن بنسبة تصل إلى 30%، وتختصر زمن التوصيل عبر تجاوز الممرات التقليدية التي تتعرض لتهديدات أمنية متكررة.
وأوضح العامري أن هذا المشروع يمثل حلاً لمشكلة مستمرة في قطاع النقل البحري والبري، خاصة في ظل الارتفاع الملحوظ في تكاليف النقل البري بين السعودية والإمارات خلال الفترة الحالية. فالطرق البرية بين البلدين تشهد ارتفاعاً في تكلفة نقل الحاويات، والتي انتقلت من نطاق يتراوح بين 4 و6 آلاف درهم إماراتي (بين 1.08 و1.63 ألف دولار) إلى نحو 8-9 آلاف درهم ، نتيجة عوامل عدة مثل تشديد الأنظمة المتعلقة بعمر الشاحنات، وزيادة أسعار الوقود، وهو ما أثقل كاهل الشركات الصغيرة والمتوسطة ورفع من أسعار السلع للمستهلك النهائي.
وإزاء ذلك، فإن الاستثمارات السعودية الكبيرة في قطاع الموانئ، مثل تطوير 8 موانئ باستثمارات تقدر بنحو 2.2 مليار ريال، تلعب دوراً محورياً في تعزيز الكفاءة وتقليل تكاليف التخزين والنقل، وهو ما قد يسهم في استقرار أسعار السلع الغذائية في الخليج، خاصة في ظل التوجه المتزايد لإلغاء الدعم الحكومي على بعض المواد في عدد من الدول المجاورة، حسبما يرى العامري.
وعلى صعيد النقل البري الداخلي، يلفت العامري إلى أن مشاريع السكك الحديدية مثل خط الشمال ـ الجنوب، إلى جانب مراكز التوزيع الذكية، من شأنها أن تحدث تحولا كبيرا في سرعة توصيل الطلبات داخل السعودية، إذ ستنخفض مدة التوصيل بنسبة تصل إلى 40% بفضل تطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي وإدارة الأسطول بشكل أكثر كفاءة. كما أن هذه البنية التحتية الحديثة ستفتح المجال أمام نمو المشاريع الصغيرة، مثل منصات التوصيل، كـ"مرسول" و"جاهز"، من خلال تمكينها من الوصول إلى أسواق أوسع بتكاليف أقل، بدعم من القرارات التنظيمية التي فتحت المجال للسعوديين للعمل الحر في قطاع التوصيل.
