
يشهد القطاع الخدمي في قطاع غزة محاولات خجولة لاستعادة جزء من نشاطه وسط ركام الحرب المستمرة منذ قرابة العامين والدمار الواسع الذي ألحقته بالبنية التحتية والمرافق الحيوية وأدت إلى توقف شبه كامل للحياة الاقتصادية.
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، كان القطاع الخدمي يشكل حوالي 54.9% من الناتج المحلي الإجمالي لغزة في عام 2022، ويشغل ما يقارب 51.6% من قوة العمل بالقطاع الخدمي والخدمات المتنوعة. وأثناء الحرب، تدهور هذا القطاع بشكل كبير. فوفق تقرير "UNCTAD"، صدر في نهاية العام 2023، انخفض نشاط هذا القطاع بما يقدر بحوالي 76% في الربع الأخير من عام 2023.
وفي عام 2022، كان عدد العاملين في القطاع الخدمي بغزة قرابة 147 ألف عامل، من إجمالي عدد العاملين البالغ 285 ألف عامل، حيث فقد الاقتصاد الغزي ما بين 182 ألفاً و192 ألف وظيفة خلال شهور الحرب الأولى، وهو ما يقدّر تراجع عدد العاملين في القطاع الخدمي إلى ما بين 50 ألفاً و60 ألف عامل.
ورغم هذا الواقع القاتم، بدأت بعض المؤشرات البسيطة تظهر في الأفق، حيث يعيد أصحاب المشاريع الصغيرة فتح أبوابها بحذر في محاولة لإحياء مصادر رزقهم وتلبية حاجات المجتمع المحلي الذي يعاني من أزمات متراكمة.
ولطالما كان القطاع الخدمي هو العصب الأبرز للاقتصاد الغزي، خصوصاً في ظل الحصار المفروض منذ أكثر من 17 عاماً، إذ إن طبيعة هذا القطاع لا تتطلب مواد خام بشكل كبير، ما جعله أقل تأثراً بإغلاق المعابر مقارنة بالقطاعين الصناعي والزراعي.
يعد نضال زقوت، وهو صاحب كافتيريا في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، أحد النماذج البارزة لمحاولات التعافي الجزئي في القطاع الخدمي، حيث كان زقوت قد خسر مشروعه السابق في شمال غزة بعد تعرضه للتدمير الكامل جراء القصف الإسرائيلي، ما كبده خسائر مالية قدرت بنحو 160 ألف دولار.
وقال زقوت في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه بادر مع نزوحه إلى وسط القطاع إلى افتتاح مشروع جديد يتمثل في كافتيريا تقدم خدمات الكهرباء والإنترنت للعاملين عن بُعد وطلبة الجامعات، بعدما جهزها لتكون مساحة عمل مرنة وسط الأوضاع الاستثنائية.
وأوضح أن مشروعه وجد رواجاً بين السكان الباحثين عن بيئة مناسبة للعمل والدراسة في ظل استمرار تدهور الأوضاع المعيشية، آملا في تعويض جزء من خسارته التي تكبدها بسبب الحرب. وأضاف زقوت: "لاقى المشروع رواجاً واسعاً في ظل غياب البدائل، رغم استمرار التحديات الاقتصادية والأمنية، فالكثير من الشباب يبحثون عن مكان هادئ وموثوق لمواصلة أعمالهم أو دراستهم، ونعمل على توفير ذلك بأقل التكاليف، ونحاول أن نبقى صامدين رغم الصعوبات".
وكذلك اتخذ مدرس مادة الرياضيات عبد القادر مصطفى خطوة مشابهة في مجال مختلف، حيث افتتح مركزاً تعليمياً لطلبة المرحلة الثانوية في وسط مدينة غزة، بعد انقطاع التعليم الرسمي لنحو عامين دراسيين. وقال مصطفى في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الطلب على المدارس الخاصة والمراكز التعليمية يزداد في ظل توقف التعليم الرسمي، وهو ما دفعني للاستثمار في هذا المجال لتأمين دخل لأسرتي من جهة والمساهمة في سد فجوة التعليم من جهة أخرى".
وأوضح أن مشروعه لا يتطلب رأس مال كبير وهو ما يشجعه على الاستمرار في تقديم خدمات تعليمية بأسعار مناسبة، رغم التحديات الاقتصادية التي تواجه السكان. وأضاف: "الإقبال المتزايد من الطلبة وأولياء الأمور يعكس حاجة المجتمع لتعويض الانقطاع الطويل عن التعليم، فمثل هذه المبادرات تساهم في تنشيط الحركة داخل القطاع الخدماتي وتوفير فرص عمل مؤقتة للمدرسين والعاملين في المجال التعليمي".
وأشار مصطفى إلى أن هذه المشاريع التعليمية حرّكت عجلة الاقتصاد الخدمي بشكل محدود، ولكن مهم في هذا الظرف الاستثنائي، مضيفاً: "نحن نعمل في بيئة غير مستقرة، لكن حاجة الطلاب للتعليم أقوى من الخوف، ولهذا وجدنا إقبالاً يفوق التوقعات".
ورغم أن هذه المشاريع لا تمثل تعافياً شاملاً، إلا أنها تشكّل مؤشراً إلى مرونة المجتمع الغزي وقدرته على التكيف وخلق حلول مبتكرة في مواجهة الأزمات، فالاقتصاد الخدمي يعتمد في جزء كبير منه على رأس المال البشري والخدمات المباشرة، ما يمنحه قدرة أسرع على إعادة التشغيل مقارنة بالقطاعات الأخرى.
من جانبه، يرى الأكاديمي والمختص في الشأن الاقتصادي نسيم أبو جامع أن القطاع الخدمي يمتلك قدرة على التعافي أعلى من القطاعات الأخرى، نظراً لمرونته وتأقلمه مع ظروف الحصار. وقال أبو جامع لـ"العربي الجديد": "حتى قبل الحرب كان القطاع الخدمي يشكل نحو 58% من الناتج المحلي الإجمالي في قطاع غزة عام 2022، لكونه يشمل التجارة والنقل والتعليم والصحة والخدمات الحكومية وغيرها"، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن معظم هذه الأنشطة تعطلت بفعل الحرب، وهو ما يجعل محاولات النهوض الراهنة، وإن كانت محدودة، تشكل بداية ضرورية لتحريك الاقتصاد الغزي من جديد.
وأكد أن نجاح هذه المبادرات يتطلب دعماً فعلياً من المؤسسات المحلية والدولية سواء عبر التسهيلات المالية أو تهيئة بيئة قانونية وتشغيلية آمنة تساعد أصحاب المشاريع على الاستمرار. وأضاف: "غياب الاستقرار وانقطاع الإمدادات يشكل عائقاً كبيراً أمام أي نمو حقيقي، ما يعني أن التعافي الكامل لا يمكن أن يتحقق من دون وقف الحرب وحل سياسي شامل يعيد فتح المعابر ويضمن إعادة إعمار حقيقية".

Related News

