
تتضاعف آلام جرحى ومرضى قطاع غزة نتيجة التأجيل المتكرّر للعمليات الجراحية، الناتج عن النقص الحاد في الأدوية والمستهلكات، ونقص عدد غرف العمليات المتوفرة، ما ينذر بمضاعفات خطيرة
ينتظر آلاف الجرحى والمرضى في قطاع غزة إجراء عمليات جراحية، خاصّة مَن تعرضوا لإصابات خلال قصف المنازل والمنشآت المأهولة بالسكان، بينما لا تتمكّن المنظومة الصحية شبه المنهارة من توفير الخدمات اللازمة في ظل خروج العديد من المستشفيات الكبرى من الخدمة، ونقص الأجهزة والمستلزمات الطبية في القلة القليلة الباقية.
على أسرّة قسم المبيت في مجمّع الشفاء الطبي، يرقد الفتى إبراهيم ريحان (15 سنة) منذ أكثر من 20 يوماً، في انتظار إجراء عملية جراحية على إثر إصابة تعرض لها في منطقة جباليا البلد شمالي قطاع غزة، يقول والده نعيم ريحان لـ "العربي الجديد": "أُصيب ابني بشظايا قنبلة أسقطتها طائرة مُسيّرة، ما أدى إلى كسر في مُشط قدمه اليُسرى، وأجرى له الأطباء إسعافات لتنظيف للجرح بانتظار العملية الجراحية التي لم يجر تحديد موعدها بعد. يرقد ابني في المستشفى منذ أكثر من 20 يوماً، واستمرار تأجيل العملية يزيد أوجاعه، وتمر بعض الليالي بلا نوم نتيجة شدة الألم، ونتمنى إجراء العملية في أقرب وقت".
على سرير آخر، ينتظر الشاب ثائر عطية (23 سنة) إجراء عملية جراحية في قدمه اليسرى، أملاً في تخفيف حدة الأوجاع التي لا تفارقه نتيجة الإصابة بشظية من قنبلة ألقتها مُسيّرة من نوع "كواد كابتر"، يقول لـ "العربي الجديد": "تعرضت قبل أيام إلى إصابة في القدم واليد، ونُقلت إلى مجمع الشفاء، وهناك أخبرني الأطباء أنني بحاجة إلى إجراء عملية لتركيب بلاتين في القدم، لكن لم تُجرَ بعد، ولا زلتُ أنتظر. يخبرني الأطباء بأن أتجهز لإجراء العملية، ويطلبون مني البقاء صائماً، وبعد ساعات عدّة يخبرونني أنّ العملية أُجِّلت؛ بسبب قدوم حالات أخرى. كل يوم تأخير يزيد أوجاعي، وأتمنى إجراء العملية قريباً".
تتكرر ذات المعاناة مع الثلاثيني أحمد شاهين، وهو نازح من مدينة رفح جنوبي القطاع، وأُصيب في إبريل/نيسان الماضي بشظية صاروخ إسرائيلي، يقول لـ"العربي الجديد": "تسببت الشظية بخدش في النخاع الشوكي عند الفقرة الصدرية العاشرة، ما جعلني أفقد السيطرة على الجزء السفلي من جسمي، وتوجهت حينها إلى مستشفى غزة الأوروبي، إذ أمضيتُ 4 أيام، وكنت بحاجة إلى علاج طبيعي وإعادة تأهيل، لكنّني لم أتلقَ العلاج المناسب بسبب الأوضاع الميدانية المتردية. أنتظر حالياً إجراء عمليتَين جراحيتَين، الأولى لزراعة بلاتين في ساقي اليمنى، والثانية لرفع الشظايا من العمود الفقري، وتسبّب عدم إجراء العمليتَين بمضاعفات صحية تشمل تشنجات، ويزيد المخاطرَ عدمُ توفر الأدوية".
فصول أخرى من المعاناة يعيشها الجريح رامي العثامنة من جرّاء عدم إجراء عملية جراحية، ويقول لـ"العربي الجديد": "أُصبت بكسر في ذراعي أثناء إطلاق جنود الاحتلال النار صوب المواطنين الجوعى الذين ينتظرون المساعدات الإنسانية. ونُقلت إلى مجمع الشفاء الطبي، وقرر الأطباء ضرورة إجراء عملية زراعة بلاتين في اليد اليسرى، لكن واجهتني صعوبات أولها عدم توفر البلاتين في المستشفى، وقد توجهت إلى مستشفيات عدّة بحثاً عنه. بعد توفير البلاتين، أنتظر إجراء العملية الجراحية، وقبل أيام جرى تجهيزي للعملية، لكن بعد ساعات أخبرني الأطباء بتأجيلها نظراً لتعطل الأجهزة الخاصة بغرفة العمليات. كثرة التأجيل تزيد أوجاعي، ولا أستطيع النوم ليلاً إلّا بعد تناول المُسكنات، وأمضي النهار في وجع".
إلى ذلك، يقول المدير الطبي لمجمع الشفاء، الطبيب حسن الشاعر، لـ"العربي الجديد"، إن "النظام الصحي في قطاع غزة يمر بوضعٍ كارثي نتيجة حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من 20 شهراً. كان المجمع الطبي يضم قبل الحرب 25 غرفة عمليات، بينما لا تعمل فيه اليوم سوى 4 غرف عمليات فقط، وهي مخصّصة للحالات الطارئة وشبه الطارئة، وسط نقص حاد في المستلزمات والأجهزة الطبية. هناك غرف عمليات أخرى تُستخدم في المستشفيات الشريكة داخل القطاع، مثل مستشفى القدس، والمستشفى الميداني الكويتي، والمستشفى العربي المعمداني، لكن العدد الإجمالي ما يزال لا يوازي ما كان متاحاً في مجمع الشفاء قبل الحرب، ما يخلق صعوبات هائلة في تلبية الاحتياجات الجراحية اليومية".
ويبيّن الشاعر أن "الأولوية في الوقت الحالي تُمنح للحالات الطارئة، في ظل زيادة الاستهداف الإسرائيلي للمنازل والمنشآت المأهولة بالسكان، فالإصابات التي تصل إلى المستشفيات تشمل جميع أنحاء الجسم، وأكثرها شيوعاً بتر الأطراف، وإصابات الرأس والصدر والبطن، والحروق الشديدة، وكلها حالات تتطلب تدخلات طبية معقدة، وإمكانات متقدمة، ما يجعلها تفوق قدراتنا الحالية، ولا يمكن التعامل معها من دون فتح المجال لدخول فرق طبية متخصّصة من الخارج، أو نقل المرضى للعلاج خارج القطاع. لا نطلب سوى القدرة على إنقاذ الأرواح في ظلّ واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي يشهدها التاريخ الحديث".
ويؤكد أنّ "الكوادر الطبية تواجه صعوبات كبيرة تتجاوز نقص غرف العمليات، من بينها نقص المستلزمات الجراحية، وندرة أجهزة التخدير التي تشكّل عائقاً كبيراً، ومعظم الأدوات الجراحية المستخدمة حالياً جرى استخراجها من تحت أنقاض مباني مجمع الشفاء المدمرة، وأُعيد تعقيمها كي يمكن استخدامها من جديد، وبعضها غير صالح تماماً، ما يؤثر سلباً على سير العمليات وسلامة المرضى".
ويتابع: "بدلاً من أن تستغرق العملية ساعتين مثلاً، قد تمتد إلى وقت أطول بسبب رداءة الأدوات المستخدمة، ما يزيد من إرهاق الأطباء، ويُضاعف خطر المضاعفات على المرضى. دمر الاحتلال جميع أجهزة التخدير في مجمع الشفاء، وجرى استخراج بعض الأجهزة القديمة، وإصلاحها لاستخدامها على نحوٍ محدود، لكنّها لا تكفي لتغطية الحد الأدنى من الحاجة في حال تشغيل غرف عمليات جديدة".
من جهته، يؤكد مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة بقطاع غزة، زاهر الوحيدي، أن "العمليات الجراحية المجدولة توقفت كلياً منذ بدء الحرب نتيجة التدهور الحاد في النظام الصحي، وتدمير البنية التحتية للمستشفيات"، ويوضح لـ"العربي الجديد": "نكتفي حالياً بإجراء العمليات الطارئة وشبه الطارئة، في ظل عجز شديد في غرف العمليات والمستلزمات الطبية الأساسية. ما يقارب 40 ألف مريض كانوا مدرجين على قائمة الانتظار لإجراء عمليات مجدولة، لكنهم لم يتمكنوا من إجرائها حتى الآن".
ويضيف الوحيدي: "قبل الحرب كان لدينا نحو 110 غرف عمليات في المستشفيات الحكومية والأهلية، لكن الآن لا يتوفر سوى 45 غرفة فقط على مستوى القطاع الصحي كاملاً، بما يشمل الحكومي والميداني والخاص، بعد خروج العديد من المستشفيات الكبرى عن الخدمة. انعكاسات هذا خطيرة على حياة المرضى والجرحى، إذ تتفاقم أوضاعهم الصحية، ويُتوفى بعضهم أثناء انتظار دوره لإجراء عملية منقذة للحياة، خاصة في الحالات الطارئة، أو العمليات التخصّصية الدقيقة التي تتطلب تجهيزات وأجهزة تشخيصية، وغالبيتها غير متوفرة، مثل جهاز الرنين المغناطيسي، الذي لا يوجد منه أي جهاز عامل في قطاع غزة".
ويتابع: "جراحات العظام والكسور المعقدة تمثل أبرز التحديات الراهنة، إذ تعاني وزارة الصحة من نقص يصل إلى 87% من مستلزمات هذه العمليات، إضافة إلى ندرة الأدوات الجراحية التي يجري استخدامها منذ أكثر من عامين من دون إمكانية لاستبدالها، حتى إنّ تعقيمها لا يجري على نحوٍ سليم، وكل ذلك بسبب إغلاق المعابر ومنع دخول المعدات الطبية. نعاني من خروج عدد كبير من الأجهزة الطبية عن الخدمة، مع غياب قطع الغيار اللازمة لإصلاحها، إلى جانب نقص حاد في الأدوية الأساسية، وتراجع أعداد الكوادر الطبية نتيجة الاستهداف المباشر، والإصابة أو الاستشهاد، أو الاعتقال، أو النزوح القسري، ما يفاقم إنهاك الطواقم المتبقية. المنظومة الصحية في غزة في حالة انهيار شبه كامل، وندعو إلى تدخل عاجل لفتح المعابر أمام المستلزمات الطبية والأدوية لتمكين الطواقم الطبية من إنقاذ أرواح المرضى العالقين على قوائم الانتظار".

Related News


