
في تطوّر وُصف بالخطر، يعكس تصاعد الانتهاكات في حقّ المحتجزين السياسيين في السجون المصرية، أطلقت منظمات حقوقية دولية ومصرية، من بينها "تحالف المادة 55"، تحذيراً عاجلاً من احتمال وقوع موجة انتحار جماعي في سجن "بدر 3"، أحد أكثر سجون مصر سرية وقسوة. أشارت المنظمات إلى أنّ السجن، الواقع في منطقة نائية شرقي محافظة الجيزة من ضمن مجمّع سجون بدر، تحوّل إلى ما وصفته بـ"محرقة للحياة والكرامة"، إذ تُمارَس فيه أبشع صور الانتهاكات الجسدية والنفسية. يُذكر أنّ منظمات حقوقية مصرية كانت قد كشفت، في وقت سابق، عن تهديدات قيادات في جهاز الأمن الوطني بتحويل هذا السجن إلى معتقل "غوانتانمو مصر".
وفي أقلّ من أسبوعَين، سُجّلت 15 محاولة انتحار في داخل السجن، من بينها ثلاث محاولات انتحار وقعت في يوم واحد فقط، تحديداً في الرابع من يوليو/ تموز الجاري. ومن بين الذين حاولوا وضع حدّ لحياتهم استشاري القلب عبد الرحيم محمد، الذي حاول ذبح نفسه أمام كاميرات المراقبة، في مشهد صادم يعكس مدى اليأس والانهيار النفسي في داخل السجن. كذلك حاول كلّ من الخبير الاقتصادي الدولي عبد الله شحاتة والناشط رضا أبو الغيط الانتحار بـ"طرق مروّعة"، وفقاً لما جاء في بيان "تحالف المادة 55" الصادر اليوم الأربعاء.
وتأتي هذه المستجدّات بالتزامن مع إضراب مفتوح عن الطعام والدواء، بدأه عدد من أبرز المعتقلين السياسيين منذ 20 يونيو/ حزيران الماضي، احتجاجاً على ظروف الاحتجاز التي وُصفت بـ"اللاإنسانية". ويطالب هؤلاء، من بينهم عضو مجلس الشعب المصري سابقاً والقيادي في حركة الإخوان المسلمين محمد البلتاجي، والقيادي في حركة الإخوان المسلمين عبد الرحمن البر، والمحامي أسامة مرسي، والوزير الأسبق خالد الأزهري، بالسماح لهم بالتريّض وتلقّي الرعاية الطبية والزيارات العائلية وإنهاء سياسة العزل التام التي يتعرّضون لها منذ سنوات.
وتصف المنظمات الحقوقية سجن "بدر 3" بأنّه "الأكثر عزلة وتنكيلاً" في مصر، إذ تُحتجَز فيه أعداد كبيرة من المعتقلين السياسيين، علماً أنّهم بمعظمهم من كبار السنّ ومن ذوي الأمراض المزمنة، في داخل زنازين ضيّقة تفتقر إلى التهوية والضوء الطبيعي، لافتةً إلى أنّ النزلاء يُمنَعون من التواصل مع العالم الخارجي سواء عبر الزيارات أو الاتصالات أو حتى رؤية ضوء الشمس. وترى المنظمات أنّ هذا الحصار الجسدي والنفسي حوّل السجن إلى "مصيدة موت بطيء"، إذ تتحوّل الأمراض إلى أحكام بالإعدام غير المعلنة.
وفي جلسة محاكمة عُقدت في الخامس من يوليو/ تموز الجاري، حاول عدد من المحتجزين تقديم شكاوى بشأن أوضاعهم الصحية، لكنّ القاضي محمد السعيد الشربيني تجاهلهم. وفي هذا الإطار، أفاد خالد الأزهري بأنّ ثمّة جرحاً قطعياً في يده من دون أيّ رعاية، فيما بيّن الطبيب حسن البرنس أنّ ثمّة 15 محاولة انتحار في داخل السجن، إلا أنّ المحكمة واصلت تجديد الحبس من دون أيّ اعتبار لظروف المحتجزين الإنسانية.
وتفيد منظمات حقوق الإنسان بأنّ الإدارة الأمنية لسجن "بدر 3" لم تكتفِ بتجاهل الشكاوى والمطالب، بل ردّت، بحسب روايات المحتجزين، بـ"السخرية من معاناتهم"، مشيرةً إلى أنّ "أحداً لا يتذكّرهم أو يكترث لأمرهم في الخارج". وهذا التفكير، وفقاً للمنظمات، تكشف عن أسلوب ممنهج تتّبعه السلطات المصرية لإذلال المحتجزين السياسيين وتجريدهم من إنسانيتهم.
وتُعَدّ محاولات الانتحار في سجن "بدر 3"، وفقاً لمنظمات من قبيل "هيومن رايتس إيجيبت" و"مركز الشهاب لحقوق الإنسان"، مؤشراً صادماً إلى حجم الانهيار النفسي لدى المحتجزين الذين لم يجدوا وسيلة للتعبير عن رفضهم لهذه الأوضاع سوى إيذاء أنفسهم. ومع ارتفاع متوسط أعمار المعتقلين وغياب الرعاية الطبية، يُخشى من أن تؤدّي الظروف السيّئة إلى كارثة إنسانية وشيكة، خصوصاً وسط استمرار الصمت المحلي وكذلك الدولي.
في سياق متصل، كتبت سناء عبد الجواد، زوجة عضو مجلس النواب الأسبق محمد البلتاجي، على مواقع التواصل الاجتماعي: "يموتون ببطء.. أبواب الزنازين قد صدأت من عدم فتحها لسنوات.. لما كلّ هذا القمع؟ أرأيتم منهم عزماً أغاظكم فزدتم تنكيلاً؟ ولكن الله أشدّ بأساً.. حسبنا الله فيمن ظلمكم".
من جهته، نشر أحمد مرسي، نجل الرئيس الراحل محمد مرسي، رسالة مباشرة إلى الضابط مروان حماد، المسؤول عن الإدارة الأمنية في سجن "بدر 3"، كتب فيها: "هذا ما لم نتّفق عليه في لقائي بك.. ليس لكم عهد"، في إشارة إلى أنّ ما يحدث في داخل السجن يجري بـ"تواطؤ أمني مباشر".
يُذكر أنّ ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي أطلقوا حملات تحت وسم #خرجوهم_عايشين وحقهم_حياة، في محاولة للضغط شعبياً ودولياً من أجل إنهاء هذه المأساة الصامتة.
وقد دعت المنظمات الحقوقية، من جهتها، إلى فتح تحقيق دولي ومستقل في الانتهاكات المسجّلة في سجن "بدر 3"، والسماح للمنظمات الدولية والوكالات الأممية بزيارة السجن والاطّلاع على الأوضاع في داخله. كذلك طالبت بنقل الحالات الحرجة إلى مستشفيات مدنية، ووقف سياسة العزل الكامل، وتقديم المسؤولين عن الانتهاكات إلى المساءلة.
وتُصنَّف قضية سجن "بدر 3" واحدة من أبرز مظاهر الأزمة الحقوقية في مصر، إذ تتراكم التقارير والشهادات التي توثّق انتهاكات متواصلة منذ فتح السجن في عام 2022، من ضمن سلسلة سجون "نموذجية" أنشأتها السلطات المصرية بهدف تحسين صورتها دولياً. لكنّ الواقع، بحسب "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" و"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، يعكس تصعيداً غير مسبوق في القمع وتوظيف هذه السجون أدوات تعذيب ممنهج.
وتوضح المنظمات الحقوقية أنّ الانتهاكات في سجن "بدر 3" تشمل "الحرمان التام من الزيارات العائلية والاتصال الخارجي"، و"منع التريّض أو التعرّض لأشعة الشمس"، و"الإهمال الطبي المتعمّد، خصوصاً لكبار السنّ وأصحاب الأمراض المزمنة"، و"الحبس الانفرادي المطوّل من دون مسوّغ قانوني"، و"تعذيب نفسي مستمر"، و"تهديد دائم بالقتل أو الإخفاء القسري".
وعلى الرغم من المناشدات الدولية المتكرّرة، ما زالت السلطات المصرية ترفض السماح بأيّ رقابة دولية على السجون، وتواصل تبرير ممارساتها بحجج "الأمن القومي" و"مكافحة الإرهاب"، الأمر الذي تراه المنظمات الحقوقية ذريعة لتصفية الحسابات السياسية مع المعارضين.
وتحمّل المنظمات السلطات المصرية، على رأسها وزارة الداخلية وجهاز الأمن الوطني والنائب العام، المسؤولية الكاملة عن سلامة المعتقلين في سجن "بدر 3"، داعيةً المجتمع الدولي إلى التحرّك العاجل قبل فوات الأوان. وتؤكد أنّ استمرار هذا الوضع قد يعني، حرفياً، موت العشرات خلف القضبان في صمت، فيما العالم يشيح بوجهه عنهم.

Related News


