في أسلمة سورية
Arab
4 days ago
share

مع انتهاء عملية ردع العدوان، وسقوط النظام الأسدي، وسيطرة هيئة تحرير الشام وحلفاؤها على كلّ المناطق التي كانت رازحةً تحت وطأة حكم النظام الساقط، ساد جو عام من الفرح والاستبشار لدى معظم السوريات والسوريين، من ناحيةٍ، مع تعبيرٍ، متدرّج ومُتزايد القوّة، لسوريات وسوريين كثر، عن مخاوفهم من التوجّهات الإسلاموية للقوى السياسية والعسكرية الجديدة، ومن إمكانية قيامها بمحاولة فرض أيديولوجيتها الدينية (المتطرّفة) في المجال العام وعلى الدولة والمجتمع عمومًا.

وعلى الرغم من أنّ تلك المخاوف بدت مسوّغة، فإنّ كثيرين رأوا وجوب عدم المبالغة فيها، وإدراك أن تحقّقها ليس أمرًا حتميًّا. فأثناء عملية ردع العدوان، أبدت القوات المذكورة انضباطًا كبيرًا، ولم يسجّل وقوع مواجهاتٍ طائفيةٍ أو اعتداءات على المدنيين في المناطق المتنوعة (دينيًّا، وطائفيًّا وإثنيًّا... إلخ)، وكان الخطاب السياسي لتلك القوى إيجابيًّا ومُطمئنًا ووطنيًّا عمومًا، أثناء سير عمليات التحرير، وبعدها، أيضًا. إضافةً إلى ذلك، رأى كثيرون في أقوال تلك القوى وأفعالها مؤشّراتٍ على تبنيها توجّهًا براغماتيًّا، ليس عقائديًّا/ أيديولوجيًّا/ إسلامويًّا، وبيّنوا أنه على الرغم من أن تلك القوى تمثّل الفاعل المحلي أو السوري الأقوى (عسكريًّا)، فإنها ليست الفاعل الوحيد، وشدّدوا على وجود فاعلين كثر غير إسلاميين/ غير إسلامويين، محليين وخارجيين، يمكن أن يساهموا في صوغ مستقبل سورية، دولةً وشعبًا، وحمايتها من الانزلاق إلى هاوية التطرّف الأيديولوجي/ الديني الأحادي الإقصائي.

حتى الآن، ما زالت المخاوف المذكورة موجودة. وتبدو للكثيرين مسوَّغة. وأرى وجوب نقد موقفين أحاديين متطرّفين حيالها: موقفٌ أولٌ يفرط في "التشاؤم"، ويجزم أن سورية تحوّلت مسبقًا، أو ستتحوّل مستقبلًا، تدريجيًّا بالتأكيد، وسريعًا على الأرجح، إلى أفغانستان أو قندهار أو إمارة إسلامية على النمط الطالباني، أو على نمطٍ أسوأ؛ وموقفٌ ثانٍ ينفي وجود أيّ مؤشّرٍ على وجود اتجاهٍ للأسلمة عند السلطة الجديدة، ويرى أنّ الحديث عن تلك الأسلمة يندرج في إطار الإشاعات المغرضة التي يتبناها وينشرها خصوم السلطة الجديدة، ومن ضمنهم فلول النظام السابق. وقد سبق لي كتابة أكثر من نصٍّ نقديٍّ في خصوص الموقف الأوّل الذي أرى أنه ينطلق غالبًا من رؤية جوهرانية للإسلام (السياسي/ الجهادي) وموقفٍ عدائيٍّ/ أيديولوجيٍّ منه، ويحوّل مخاوفه إلى توقّعات جازمة تفتقر عمومًا إلى ما يسوِّغها معرفيًّا، من الناحية النظريّة، وعمليًّا، من الناحية الواقعية. وسأتابع، في هذه التدوينة، ما بدأت به في التدوينة السابقة -الموسومة ﺑـ"في أسلمة (غير) المسلمين"- من نقدٍ للموقف الثاني، ولتبني بعض الإسلاميين (السوريين) له.

تعني الأسلمة فرض رؤيةٍ إسلاميةٍ أحاديةٍ، وفقًا لتأويلٍ جماعةٍ أو مجموعةٍ إسلاميةٍ، على (مؤسسات) الدولة و(أفراد) المجتمع، وفي المجال العام

ينوس خطاب الإسلاميين المذكورين، في نقاشهم موضوع الأسلمة والمخاوف من حصولها في سورية الحاضر والمستقبل، بين حالتي الإنكار والتناقض الذاتي الصارخ. فمن جهةٍ أولى، هم يجرؤون، أحيانًا، على إنكارٍ صريحٍ لوجود أيّ مؤشّرٍ على وجود الأسلمة المذكورة. ومن جهة ثانيةٍ، تراهم يؤكدون، صراحةً أو ضمنًا، حصول تلك الأسلمة، ويشدّدون على أنها طبيعيةٌ وإيجابيةٌ وضروريةٌ، في الوقت نفسه. فهي، من وجهة نظرهم، طبيعيةٌ، لأنهم يرون أنّ القوى التي حرّرت سورية من الطغيان الأسدي إسلاميةٌ، و"من يحرّر (يحق له وحده، "لا شريك له"، أن) يقرر". وهي، من منظورهم، إيجابيةٌ، لأنها تحكيمٌ لشرع الله، والله أحكم الحاكمين. وهي، وفقًا لهم، ضروريةٌ، انطلاقًا من تشديدهم على أولوية حكم الله والثوابت الدينية/ الإسلامية، بالمقارنة مع أي رؤيةٍ بشريةٍ، هي، باعتقادهم، "ناقصة عقلٍ ودينٍ"، بالضرورة.

في نقاش مسألة الأسلمة، ينبغي، بدايةً، توضيح معنى الأسلمة، للتعرّف إلى مدى وجودها (وهذا ما أركز عليه في هذه التدوينة)، ومن ثم يمكن مناقشة مدى طبيعيتها وإيجابيتها وضرورتها، وهو ما سأفعله في تدوينةٍ لاحقةٍ. والمقصود بالأسلمة، في السياق الحالي، فرض رؤيةٍ إسلاميةٍ أحاديةٍ، وفقًا لتأويلٍ جماعةٍ أو مجموعةٍ إسلاميةٍ، على (مؤسسات) الدولة و(أفراد) المجتمع، وفي المجال العام. وسأركّز، في ما يلي، على الإشارة إلى ما أرى أنه يمثّل أهم المؤشّرات على وجود الأسلمة بالمعنى المذكور، مع التشديد على أنّ كلّ تلك المؤشّرات، جزئية ونسبية، بمعنى أنها لا تدل على وجود فعلي لعملية أسلمةٍ كاملةٍ، كما يدَّعي كثيرون. فثمة مؤشّراتٌ كثيرةٌ أخرى تدل على أن السلطة الحالية لا تقوم بعملية أسلمةٍ للدولة والمجتمع في مجالاتٍ كثيرةٍ، كما يزعم كثيرون. لكن، وعلى العكس من المنطق الزائف الذي يتبناه كثيرون من أصحاب الموقف الأوّل، عدم وجود أسلمةٍ في تلك المجالات لا ينفي وجود أسلمةٍ في مجالاتٍ أخرى.

تعالت دعوات النفير، واختلطت بالأصوات الدينية الطائفية الداعية إلى الانتقام من "العلويين"، من دون حرصٍ على ضرورة التمييز بين هؤلاء "العلويين" عمومًا، وبين الفلول المجرمين

ولعل أبرز المؤشّرات على وجود الأسلمة تتعلّق بالقوى العسكرية والأمنية التابعة للسلطة الحالية أو المؤيّدة لها عمومًا، والمجازر التي شاركت في تنفيذها، وفقًا لتقارير كثيرةٍ، منها تقرير رويترز الأخير عن تلك المجازر. فبُعيد الهجوم الغادر الذي قامت به مجموعات ما يسمّى ﻓـ"فلول النظام السابق" والمجازر التي ارتكبتها، تعالت دعوات النفير، واختلطت بالأصوات الدينية الطائفية الداعية إلى الانتقام من "العلويين"، من دون حرصٍ على ضرورة التمييز بين هؤلاء "العلويين" عمومًا، وبين الفلول المجرمين. وعلى الرغم من أنّ هذا الخلط بين الأمني العسكري والديني الطائفي صادمٌ، فهو ليس مفاجئًا، ليس، فقط، لأنه نتيجة التوتّرات والاحتقانات الطائفية المترسّبة من تطييفٍ أسدي وغير أسديٍّ، مقصودٍ أو غير مقصودٍ، لنظام الحكم في سورية، ولمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وللعلاقة بين الانتماءات الدينية أو الطائفية المختلفة، بل، أيضًا، لأن المؤسسات العسكرية والأمنية السورية، قيد التأسيس، تبدو، إلى حدٍّ كبيرٍ، إسلاميةً/ إسلامويةً طائفيةً/ سنيةً. وهي بالتالي، مؤسساتٌ غير وطنيةٍ، بامتيازٍ. فالفصائل والشخصيات الأساسية التي شكّلت نواة تلك المؤسسات هي، عمومًا، فصائل وشخصيات إسلاميةٌ/ إسلامويةٌ (طائفيةٌ) سنيةٌ. وعند فتح باب الانتساب إلى تلك المؤسسات، جرى الإعلان عن وجوب الخضوع لما سُمّي "دورة شرعية"، كجزءٍ من عملية التأهيل للانضمام إلى تلك المؤسسات. وتسرّبت بعض التسجيلات لخطب (دينية) كانت تُلقى على الأفراد المُنتسبين إلى دورات التأهيل المذكورة، وكان واضحًا أنها تشبه خطب الجوامع في الشكل، ومليئة بالخطاب الديني/ الإسلامي (المتطرّف) من حيث المضمون. ولم تتردّد الكثير من الفصائل والتشكيلات العسكرية المُنتمية للقوى العسكرية والأمنية التابعة للسلطة الجديدة في رفع شعارات وأعلامٍ دينيةٍ وتبني هتافاتٍ وخطاباتٍ دينيةٍ، في أثناء استعراضاتها العسكرية، ولا سيما في المناطق المُحتقنة طائفيًّا، في الساحل وحمص (ودمشق) مثلًا.

وإذا لم يكن هناك اتفاق على أنّ ذلك كلّه يشكِّل مؤشّرًا واضحًا وقويًّا على وجود أسلمةٍ/ تسنين للدولة السورية، ولأهم وأخطر مؤسساتها، فلن يكون هناك، على الأرجح، أي معنى أو جدوى من الحديث عن ذلك الوجود وتلك الأسلمة. وقد كنت وما زلت أرى أنّ عقائدية/ إسلامية وفصائلية المؤسسات الأمنية والعسكرية المشكلة حديثًا تجعلها قنبلةً موقوتةً قابلةً للانفجار وتفجير سورية، دولةً ومجتمعًا، في أي لحظةٍ، راهنةٍ أو مستقبليةٍ. وقد كانت هناك مأسسة فصائلية وعقائدية/ طائفية مختلفة في مؤسسة الجيش السوري المُنحل، والمؤسسات الأمنية المخابراتية الأسدية، وقد أفضى ذلك إلى جعلها مؤسسات النظام الأسدي، وليست مؤسسات الدولة والشعب. وكان ذلك من (أهم) العوامل التي جعلت "سورية الوطن" تتحول إلى "سورية الأسد"، وأفضى ذلك وغيره إلى الدمار الذي حلّ بسورية على يد النظام الساقط.

سأبين في تدوينةٍ قادمةٍ، أو أكثر، وجود مؤشرات أخرى (كثيرةٍ) على وجود أسلمةٍ ما في سورية، كما سأناقش مدة طبيعيتها أو لا طبيعيتها، وإيجابيتها أو سلبيتها، وضرورات وجودها أو ضرورات عدم وجودها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows