
بدّلت حرب الإبادة الإسرائيلية شكل ومعالم حياة الفلسطينيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم يقتصر أثرها على الواقع فقط، بل امتدت إلى العالم الرقمي، مغيّرةً من طبيعة استعمال سكان غزة المحاصرين وسائل التواصل الاجتماعي، جاعلةً منها أداة حيوية للبقاء في ظل انهيار البنية التحتية وانقطاع الاتصالات، بحسب ما توصل إليه مركز "حملة" في ورقةٍ بحثية صدرت أمس الثلاثاء.
ولحظ فريق المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة)، في الورقة التي جاءت بعنوان "حرب غزة: كيف شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي السردية والتضامن بين الغزيين؟"، خمسة ظواهر رئيسية، هي:
- التحوّل نحو استخدام وسائل التواصل أدوات للنجاة والتوثيق
- الإرهاق العاطفي الناتج عن سرديات الصمود
- تصاعد الرقابة المجتمعية وتفاقم سوء الفهم
- تآكل الخطاب الوطني
- هشاشة التضامن الدولي
واعتمد المركز على مقابلات فردية وجلسات نقاش مع شبان وشابات من القطاع، وتحليل وصفي لمنشورات عامة جُمعت من منصات مختلفة. وكان 83% من سكان غزة يستخدمون الإنترنت عام 2022، كما بلغت نسبة الأسر التي تملك اتصالاً بالإنترنت 92% في العام نفسه، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، لكنّ البنية التحتية الرقمية شديدة الهشاشة وخاضعة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي.
وظهر ذلك سريعاً مع بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على غزة، فقد بلغت نسبة تعطل شبكة الإنترنت 80% في القطاع، وتدمر 50% من الشبكة بشكل كامل، وتعرض 25% منها لأضرار جزئية، وهو ما دفع سكان القطاع إلى اللجوء لحلول غير آمنة، مثل استخدام شرائح خلوية إسرائيلية ومصرية، وشرائح خلوية إلكترونية (E-Sim)، وإنشاء شبكات اتصال محلية (WiMAX).
ورأى مركز "حملة" أن "الفضاء الرقمي في زمن الإبادة" لم يكن مجرد انعكاس للواقع كما هو الحال في أماكن أخرى حول العالم، بل تحول إلى "جزء من شروطه وأدوات صناعته"، وصارت منصات التواصل الاجتماعي مساحة لإعادة تعريف السياسة والهوية والنجاة، لا كترف تعبيري، بل كفعل يومي لمواجهة العزلة.
وسائل التواصل وسيلة لمواجهة العزلة
لم يكن التحوّل في استخدام وسائل التواصل خلال حرب الإبادة خياراً واعياً بالنسبة للفلسطينيين في غزة، بل نتيجة لانهيار البنية التحتية الرسمية. وأفاد معظم المتحدثين مع فريق مركز حملة بأن انقطاع الاتصالات وغياب الكهرباء جعل المنصات الرقمية الوسيلة الوحيدة للتفاعل مع العالم الخارجي.
كذلك، بيّن تحليل عشرات المنشورات خلال الشهر الأول للحرب أن استخدام منصات التواصل صار شرطاً من شروط النجاة، مع انتشار منشورات من نوع "أنا عايش" و"ساعدونا نطلع المصابين"، وهي لا تعد "منشورات للتفاعل، بل خطابات نجاة فورية"، بحسب "حملة". كما أن أصحاب منشورات أخرى كانوا يسعون للوصول إلى احتياجات ملحة، مع انتشار أسئلة عن توفر الماء والكهرباء والوقود، وحتى البحث عن أماكن "آمنة" للنزوح.
إرهاق من صورة "الصامد البطولي" في غزة
عبّر الكثير من المشاركين في جلسات ومقابلات مركز "حملة" عن شعورٍ بالإرهاق نتيجة التوقعات المحلية والخارجية بأن يظل الفلسطيني في غزة بصورة "الصامد البطولي" بشكل دائم. كما أشار أكثر من نصف المشاركين إلى شعور متكرّر بأن ما ينتظر منهم ليس قول الحقيقة، بل تقديم نسخة من "الفلسطيني الذي لا ينكسر". كما بيّن تحليل "حملة" لعشرات المنشورات تحوّلاً في المضمون، من خطاب جماعي تحت عنوان "نحن سنصمد"، إلى اعترافات فردية مثل "أنا تعبت" و"أشعر بالخوف".
وأشار مركز "حملة" إلى أن الضغط لم يكن فقط من المتضامنين أو من الجمهور الخارجي، بل كذلك من قبل الفلسطينيين على منصات التواصل، والذين أعادوا إنتاج سردية نمطية للبطولة، ممّا زاد من صعوبة تعبير سكان غزة عن معاناتهم أو ما يواجهونه بشكل يومي في الحرب. وكشفت المقابلات التي أجراها "حملة" أن التعبير عن الغضب أو النقد كان "يقابل بعنف رمزي علني"، يتضمن التشهير والتخوين، إذ واجه الكثير من أصحاب المنشورات التي تتضمن آراء نقدية ردوداً تتهمهم بالخيانة أو الضعف وتثبيط المعنويات.
غضب من هشاشة التضامن الدولي
عبّر الكثير من المشاركين عن غضبهم من هشاشة التضامن الدولي على منصات التواصل، وتساءل عددٌ منهم في حديثهم مع مركز "حملة" عمّا إذا كان التضامن "أداة دعم حقيقية أو مجرد وسيلة لتهدئة ضمير المتضامنين". ففي الأيام الأولى للحرب بلغ التضامن العالمي ذروته على منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، لكنّ هذا الزخم تراجع تدريجياً، وبقي بلا أي أثر سياسي ملموس على الواقع.
ورأى "حملة" أن وسائل التواصل الاجتماعي تحوّلت من أداة لنقل المعاناة الفلسطينية إلى ساحة للصراع الرمزي، كما أن الحرب "أعادت تعريف العلاقة بين الغزي وشاشته: من أداة للتوثيق إلى مساحة للنجاة، وصولاً لكونها مرآة للخذلان". في الوقت نفسه، فإنها على هشاشتها "بقيت المساحة الوحيدة المتاحة أمام الفلسطيني، ليصرخ ويطالب ويبقى".
وقدّم "حملة" في ختام الورقة مجموعة من "التوصيات السياساتية"، أبرزها:
- تعزيز الأرشفة المجتمعية للمحتوى الرقمي القادم من غزة
- دعم مبادرات محلية توثّق التعبير الرقمي
- توفير حماية رقمية للناشطين والمستخدمين من خلال التدريب على الأمان الرقمي
- تشجيع الحوار المجتمعي حول الإقصاء داخل الفضاء الرقمي الفلسطيني، مثل التخوين والتشهير.

Related News
