رحيل القمص بطرس الجبلاوي... صوت بورسعيد في وجه الاستعمار
Arab
4 days ago
share

رحل القمص بطرس الجبلاوي في غربته، كما رحل كثيرون من رموز هذا الوطن الذين عاشوا له لا منه، تاركًا خلفه سيرةً لا تُختزل في لقب كاهن أو مقاوم أو عضو مجلس محلي، بل في كلمة واحدة يتداولها أهالي بورسعيد اليوم: "كان أبونا... كلنا".

غيب الموت ، أمس الثلاثاء، القمص الجبلاوي، أحد أبرز رموز الوطنية والوحدة الدينية في مدينة بورسعيد، وأكبر كهنة كنيسة مارجرجس، عن عمر ناهز التسعين عاماً، وذلك في مقر إقامته بالولايات المتحدة الأميركية، حيث قضى سنواته الأخيرة مغترباً عن المدينة التي خدمها منذ كان شابًا يتجول بين شوارع حي العرب والفرنج بردائه الكهنوتي، حاملاً رسالة حب ومقاومة وعدالة.

من على منبر الجامع إلى خطوط النار

لم يكن القمص الجبلاوي مجرد راعٍ ديني، بل كان رجل مواجهة ميدانيا، وواحدًا من الوجوه القليلة التي جمعت بين الكهنوت والكفاح المسلح. ففي خضم العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، ظهر بملابسه الدينية على منبر المسجد العباسي التاريخي يخطب في الناس، يُعبّئهم للمقاومة، معلنًا أن "الوطن لا يعرف طائفة أمام الرصاص". وفي شهادة نادرة وثّقها محافظ بورسعيد اللواء محب حبشي في نعيه الرسمي، قال إن القمص بطرس "شارك فعليًا في حمل السلاح ضمن كتائب المقاومة الشعبية"، كما تم تعيينه عضوًا في مجلس حرب بورسعيد من قِبل الرئيس الراحل أنور السادات، تقديرًا لدوره القيادي وقت الأزمة.

حين انقلبت الدولة على أبطالها

لم تخلُ سيرة القمص بطرس الجبلاوي من الشوائب المفروضة عليه، فقد عاش في زمن تحوّلت فيه الوطنية إلى تهمة، والتاريخ النضالي إلى عبء. ففي عام 2010، قبيل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وجد نفسه في عين عاصفة سياسية وأمنية، حين تعرّض نجله "جوزيف بطرس الجبلاوي"، رجل أعمال ومواطن معروف في بورسعيد، لحملة إعلامية وأمنية مشبوهة، بعدما تم ضبط شحنة ألعاب نارية داخل رسالة استيراد قانونية.

ورغم أن الواقعة لا تحمل في طياتها أي أبعاد جنائية حقيقية، إلا أن وزارة الداخلية في عهد اللواء حبيب العادلي -والتي كانت آنذاك تستخدم ملفات الفتنة الطائفية أداة للضبط الاجتماعي وتفتيت الثقة المجتمعية- قررت التدخل العنيف في القضية. فبعدما أصدر قاضي المعارضات قرارًا بالإفراج عن جوزيف لعدم كفاية الأدلة، سارع جهاز أمن الدولة حينها بإصدار قرار اعتقال إداري فوري بحقه، في خطوة اعتبرها كثيرون تجاوزًا صارخًا للسلطة القضائية، وتوظيفًا ممنهجًا لملف الأمن الطائفي لإعادة ترهيب المجتمع. وتحولت شحنة الألعاب إلى ما وصفته بعض الصحف بـ"سفينة أسلحة مهربة"، في خطاب تضليلي استغل الرمزية الدينية لوالده القمص بطرس، ليشوّه تاريخه النضالي ويُلقي بظلال من الشك على أسرته، في محاولة واضحة لتأديب الرموز الوطنية غير الخاضعة للوصاية.

سياسة "فرق تسد" الطائفية

كانت تلك الواقعة نموذجًا صارخًا لسياسة "اللعب على وتر الطائفية" التي اتبعتها الأجهزة الأمنية في عهد مبارك، بهدف إحكام القبضة على المجتمع، وإبقاء التوترات الطائفية في حالة غليان تحت السيطرة. وبدلاً من حماية رموز الوحدة، استُخدموا ورقة ضغط، تتم التضحية بهم حين تقتضي ضرورات الأمن السياسي أو رغبات "التأديب الاستباقي". وقد تركت تلك الحادثة أثرًا بالغًا في القمص الجبلاوي، الذي وصفه المقربون منه آنذاك بأنه شعر بالانكسار والخذلان، وفضّل الابتعاد والسفر إلى الولايات المتحدة، حيث عاش سنواته الأخيرة في صمت، بعيدًا عن البلد الذي حمل له السلاح واعتلى منابر مساجده ذات يوم.

القمص بطرس الجبلاوي صديق المسلمين

عُرف القمص بطرس الجبلاوي في أوساط بورسعيد كـ"كاهن الشعب". لم يكن يكتفي برعاية الرعية في الكنيسة، بل كان يفتح بيته وقلبه لأبناء الحي كلهم. جلساته مع المأذون التاريخي الشيخ إبراهيم العتمة تحوّلت إلى منتدى شعبي ساخر، يتبادلان فيه الدعابة والحكمة والتاريخ. وعندما كان يحضر العزاءات، يقرأ القرآن إلى جانب الكهنة، ويصمت بخشوع مع دعاء المسلمين للموتى.

ويروي أحد الحضور أن شيخًا اختتم دعاءه في عزاء قائلاً: "اللهم ارحم موتى المسلمين"، ثم انتبه لوجود القمص بطرس، فأردف بابتسامة: "وارحم موتى المسيحيين كمان علشان أبونا بطرس".

 

حين عين في مجلس محلي محافظة بورسعيد، رفض أن يتقوقع داخل الكنيسة أو المكتب. بدلاً من ذلك، وضع كرسيًا بسيطًا على رصيف شارع محمد علي بجوار الكنيسة، ليستقبل عليه شكاوى المواطنين ومطالبهم، خصوصًا من أولئك الذين قد يتحرجون من دخول الكنيسة. "أنا في الشارع زيكم"، كان يردد دائماً.

شارك القمص الجبلاوي في ترسيخ مفهوم "إفطار رمضان داخل الكنائس" في فكرة رمزية للوحدة الوطنية، وكان من أوائل من بادروا بتنظيمها في بورسعيد. وظل على تواصل دائم مع أبناء مدينته، حتى بعد سفره، من خلال منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كتب عن "الزمن الجميل" و"المقاومين الحقيقيين"، وسأل عن أحياء بورسعيد كما يسأل الأب عن أبنائه.

واليوم، يودّع أبناء المدينة الباسلة القمص بطرس الجبلاوي، وهم يحملون صوره من على منبر المسجد، أو كارنيه المقاومة الشعبية، أو جلساته على الرصيف، أو تعليقاته اللطيفة على فيسبوك. رحل من أحب مدينته أكثر من نفسه، تاركًا إرثًا لا يملكه كثير من السياسيين أو القادة: الصدق.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows