
في حادثة هي الأولى من نوعها على هذا المستوى في روسيا منذ 1991، قالت لجنة التحقيق الروسية، أول من أمس الاثنين، إن وزير النقل الروسي رومان ستاروفويت قضى منتحراً، بعد ساعات من إقالته بمرسوم من الرئيس فلاديمير بوتين.
وساد اعتقاد أن الوزير المقال انتحر على خلفية أنباء عن إمكانية محاكمته بقضايا فساد تتعلق بفترة تسلمه منصب حاكم مقاطعة كورسك، وعلى وجه الخصوص اختلاس أموال كانت مخصصة لبناء تحصينات خرسانية على الحدود مع مقاطعة سومي الأوكرانية، ما سمح بتقدم القوات الأوكرانية السريع في أغسطس/ آب 2024 واحتلال أكثر من ألف كيلومتر مربع من أراضي كورسك. ولم تستبعد تحليلات روسية أن تكون إقالة ستاروفويت جاءت على خلفية قضايا فساد كبرى في عملية إعادة بناء الطرق والسكك الحديد في المناطق التي احتلتها روسيا من أوكرانيا.
وسلطت الحادثة الضوء على عشرات حالات الانتحار والوفيات الغامضة لمسؤولين حكوميين ورجال أعمال ومديرين تنفيذيين في شركات عملاقة منذ سنوات، ازدادت بعد بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. وتطرح تساؤلات حول عودة حالة الفوضى التي كانت سائدة في تسعينيات القرن الماضي من انعدام الأمن ونشاط المجموعات الإجرامية والمافيات.
الوزير والتقليد السوفييتي
وفيما خصصت محطات التلفزة الرسمية ما بين 20 و45 ثانية لعرض الخبر في نشرات المساء، وتجاهلته في النشرات المتأخرة، أثار خبر انتحار ستاروفويت نقاشات واسعة بين الداعمين للحرب على موقع تليغرام. وكتبت بعض القنوات أنها تحترم تصرفات المسؤول. وقال المدون يوري بودولياكا إنه يحترم ستاروفويت لمثل هذا الفعل، على الرغم من أنه اعتبر أن مثل هذا التصرف "ليس نموذجياً لسياسي روسي حالي"، إذ تُطرح عليه أسئلة من منظور قانوني. وكتب: "على سبيل المثال، لم يكن أي من نواب وزير الدفاع السابق (سيرغي شويغو)، الذين ضُبطوا في سرقات ضخمة (وما شابهها)، قادراً على فعل شيء كهذا، فالضباط الحقيقيون، الذين لا يُمثل الشرف بالنسبة لهم مجرد كلام فارغ، كانوا ليُطلقوا النار على أنفسهم". وطرحت قناة "مذكرات المظلي" السؤال التالي: "إذن، اتضح أنه تصرف كضابط؟". ووصف المراسل العسكري في كورسك، رومان أليخين، تصرف ستاروفويت بأنه "خطوة من الماضي السوفييتي، حين اختار المسؤول الموت، بدلاً من الملاحقة الجنائية والعار".
باتت حالات الوفاة والانتحار الغريبة للمسؤولين أمراً شائعاً في روسيا منذ بداية الحرب مع أوكرانيا
وكانت آخر حالة انتحار لمسؤول على مستوى وزير فيدرالي هي لرئيس وزارة الداخلية في الاتحاد السوفييتي والمشارك في انقلاب أغسطس 1991 بوريس بوغو، حيث أطلق النار على نفسه في شقته بموسكو في 22 أغسطس 1991. وبعده، انتحر أربعة أعضاء آخرين من لجنة الطوارئ الحكومية التي نفذت انقلاباً فاشلاً على آخر رئيس سوفييتي ميخائيل غورباتشوف، حيث شنق المارشال سيرغي أخرومييف نفسه في مكتبه في الكرملين في 24 أغسطس 1991، وقفز مدير شؤون اللجنة المركزية للحزب الشيوعي نيكولاي كروتشينا من شرفة مبنى في 26 أغسطس في العام نفسه، وهو ما قام به أيضاً مدير شؤون اللجنة المركزية للحزب الشيوعي غيورغي بافلوف في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1991، والرئيس السابق للقطاع الأميركي في القسم الدولي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي دميتري ليسوفوليك في 17 أكتوبر 1991.
شبهات فساد
وعُين ستاروفويت في منصب وزير النقل في مايو/أيار 2024، وبقي فيه حتى قبل عدة ساعات من وفاته الاثنين الماضي. وترأس منطقة كورسك من أكتوبر 2018، حتى تعيينه وزيراً للنقل، فيما حل نائبه أليكسي سميرنوف مكانه قائماً بالأعمال لكورسك حتى نهاية العام الماضي، حين قرر بوتين عزله وتعيين النائب السابق ألكسندر خينشتاين في المنصب. وأثناء قيادة سميرنوف، شنّت القوات الأوكرانية هجوماً على المنطقة، وتمكنت من الاستيلاء على جزء كبير من أراضي كورسك واحتفظت بها لعدة أشهر. وفي 16 سبتمبر/أيلول 2024، حين سيطرت القوات الأوكرانية على أكثر من 800 كيلومتر مربع من منطقة كورسك، نشر قائد القوات الخاصة "أخمات" أبتي علاء الدينوف، مقطع فيديو مع ستاروفويت وسميرنوف على قناته على "تليغرام"، وصف فيه الرجلين بأنهما "شخصان يبذلان قصارى جهدهما لضمان أن تكون روسيا عظيمة وقوية". وشكر ستاروفويت على بناء هياكل هندسية وتحصينات عالية الجودة على الحدود مع أوكرانيا. وفي الوقت ذاته، حذر القائد الشيشاني مُسبقاً من أن الفيديو سيُقابل برد فعل سلبي، وطلب من ستاروفويت وسميرنوف عدم الالتفات لهذا الأمر، قائلاً: "لن يرضى الجميع عنا أبداً. سيكون لنا أعداء بالتأكيد، وسيكون لنا أصدقاء، وسيكون هناك من يكتفي بالصمت. هذا لا يعني شيئاً".
وبعد شهر من نشر الفيديو، بدأت عمليات تحقيق في المنطقة تتعلق بقضايا احتيال وغسل أموال وإساءة استخدام السلطة أثناء بناء الهياكل الدفاعية. وعلى خلفية القضية فتحت تحقيقات مع نواب محليين وشركات بناء، وتم اعتقال عدد منهم بتهمة عدم بناء التحصينات اللازمة والحصول على أكثر من 3.2 مليارات روبل (الدولار يساوي حوالى 80 روبل) عن طريق عقود لشركات وهمية. وفي 16 إبريل/نيسان 2025، أُلقي القبض على سميرنوف ونائبه أليكسي ديدوف بتهمة الاحتيال بمبلغ مليار روبل. في ذلك الوقت، لم يكن سميرنوف يشغل أي منصب حكومي بعد إقالته من منصب حاكم منطقة كورسك في ديسمبر/كانون الأول 2024. وأفادت عدة وكالات إخبارية روسية بأن سميرنوف أدلى بشهادته ضد ستاروفويت. ولم يُعلق الكرملين بعد على وفاة ستاروفويت، فيما كان المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف قال، في بيان قبل الانتحار، إن إقالة ستاروفويت "لا علاقة لها بفقدان الثقة" به.
وزادت التكهنات بأن انتحار ستاروفويت جاء على خلفية مخاوف من فتح قضايا فساد. وسبق هذا الأمر بساعات وفاة أليكسي كورنيتشوك، نائب رئيس إدارة الممتلكات في شركة "روسجيلدور" وأحد مسؤولي وكالة السكك الحديدية التابعة للوزارة. ووفقاً لقناة "ماش" على "تليغرام" فقد نهض المسؤول فجأة خلال اجتماع في مبنى وزارة النقل، ثم سقط أرضاً وتوفي، مشيرة إلى أن كورنيتشوك توفي "بعد سماع نبأ استقالة ستاروفويت من منصب وزير النقل".
سوابق غامضة
وباتت حالات الوفاة والانتحار الغريبة للمسؤولين أمراً شائعاً في روسيا منذ بداية الحرب مع أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. ومع الإعلان عن وفاة ستاروفويت وكورنيتشوك ارتفع عدد الوفيات بظروف غامضة لممثلي الحكومة الروسية أو الهياكل المقربة منها إلى 20. وحدثت بين إبريل ويوليو/تموز 2022، أربع حالات وفاة غريبة لمسؤولين مرتبطين بقوات الأمن. أولاً، توفي الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية فياتشيسلاف تروبنيكوف في ظروف غامضة، ثم أطلق اللواء المتقاعد من جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية ليف سوتكوف النار على نفسه بمسدس. وبعد ذلك بفترة وجيزة، عُثر على الموظف السابق في الإدارة الرئاسية أليكسي أوغاريف ميتاً، ثم نائب رئيس أكاديمية الجمارك الروسية زاليم كيريفوف الذي قطع معصميه في زنزانة الحبس الانفرادي في سجن في موسكو.
قضى منذ 2022 العديد من كبار المديرين المرتبطين بشركات النفط والغاز المملوكة للدولة والشركات الخاصة
كما توفي العديد من موظفي الخدمة المدنية في 2022. ففي أغسطس، توفي عمدة مدينة تشيبوكساري عاصمة جمهورية تشوفاشيا الروسية أوليغ كورتونوف البالغ من العمر 38 عاماً إثر نوبة قلبية، فيما سقط في ديسمبر/كانون الأول، أحد أغنى نواب حزب روسيا الموحدة، بافل أنتوف، من نافذة مبنى في نيودلهي. وفي فبراير/شباط من العام ذاته، توفي المدير العام لشركة الخدمات اللوجستية، إيغور نوسوف، بسكتة دماغية عن عمر ناهز 43 عاماً. وفي سبتمبر/أيلول 2022، توفي مدير شركة تنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي إيفان بيتشورين جراء سقوطه من قارب في بحر اليابان.
كما حدثت سلسلة من وفيات المسؤولين الأمنيين في النصف الأول من 2023. ففي فبراير، سقطت رئيسة الإدارة المالية في المنطقة العسكرية الغربية، مارينا يانكينا، من الطابق السادس عشر في سان بطرسبرغ، وعُثر على نائب رئيس المديرية الرئيسية لمكافحة التطرف في وزارة الداخلية فلاديمير ماكاروف مصاباً بطلق ناري في الرأس. وفي مايو، توفي نائب وزير العلوم بيوتر كوتشيرينكو، الذي انتقد الحرب مع أوكرانيا في محادثات خاصة، على متن طائرة قادمة من كوبا. وذكرت وزارة العلوم والتعليم العالي الروسية، في بيان وقتها، أن "كوتشيرينكو كان يشعر بآلام المرض أثناء وجوده على متن طائرة مع وفد روسي كان عائداً من رحلة عمل إلى كوبا"، مشيرة إلى "فشل الأطباء في إنقاذه". وفي أغسطس، توفي سيرغي فيلاتوف، رئيس إدارة أول رئيس لروسيا بوريس يلتسين، والذي كان انضم إلى صف معارضي التدخل الروسي في أوكرانيا.
وفي فبراير العام 2024، سقط رئيس فرع كاريليان لجهاز مكافحة الاحتكار، أرتور برياخين، من نافذة في الطابق الخامس في مدينة بتروزافودسك شمال غربي روسيا. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، عُثر على الرئيس السابق لقسم الأمن الداخلي للجنة التحقيق، ميخائيل ماكسيمينكو، ميتاً في سجن بعد الحكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً.
وحدثت الموجة التالية من وفيات المسؤولين في روسيا في النصف الأول من 2025. ففي يناير/كانون الثاني، عُثر على نائب رئيس إدارة مدينة فلاديفوستوك كونستانتين كليويف (42 سنة) ميتاً في تايلاند، فيما أطلق في فبراير نائب رئيس قسم في وزارة الداخلية يفغيني غولوفاتي النار على نفسه. وفي مارس/آذار الماضي، توفي نائب رئيس الإدارة الإقليمية في أرخانغيلسك فلاديمير أنانييف أثناء لعب الهوكي. وفي إبريل/نيسان، انتحر نائب رئيس المديرية الرئيسية لدائرة السجون الفيدرالية في مقاطعة كراسنويارسك إيغور روزنيف. وتوفي نائب رئيس شركة ترانسنفت، أندريه بادالوف (62 سنة)، في موسكو في 4 الشهر الحالي. وذكرت السلطات، في بيان وقتها، أنه "عُثر على جثة بادالوف تحت نوافذ منزل على طريق روبليفسكوي السريع (غرب موسكو). والسبب الأولي للوفاة هو الانتحار". وكان بادالوف تولى منصب نائب رئيس شركة ترانسنفت في العام 2021.
وفيات غامضة لمديري شركات نفط في روسيا
ومنذ 2022، قضى العديد من كبار المديرين المرتبطين بشركات النفط والغاز المملوكة للدولة والشركات الخاصة في روسيا، من بينها غازبروم ولوك أويل وترانس نفط. ففي يناير 2022، عُثر على ليونيد شولمان، رئيس خدمة النقل في شركة غازبروم إنفست، ميتاً في حمام منزله الريفي في قرية في منطقة لينينغراد. وفي فبراير، وجد ألكسندر تيولياكوف، نائب مدير مركز التسوية الموحد لأمن الشركات التابع لشركة غازبروم مشنوقاً في مرأب منزله في قرية بالقرب من سانت بطرسبرغ، فيما عثر في إبريل على فلاديسلاف أفاييف، نائب رئيس مصرف "غازبرومبانك"، مقتولاً بالرصاص في شقته في موسكو. كما تم العثور على جثتي زوجته وابنته بجانبه. كما عثر في الشهر ذاته على سيرغي بروتوسينيا، المدير التنفيذي السابق لشركة نوفاتك، ميتاً مع زوجته وابنته، في فيلته في إسبانيا. وفي مايو/ أيار 2022، عثر على ألكسندر سوبوتين، العضو السابق في مجلس إدارة شركة لوك أويل، ميتاً في منزل خاص في ميتيشي في مقاطعة موسكو. وتم تشخيص الوفاة وقتها على أنها قصور حاد في القلب. وفي يوليو من العام ذاته قضى يوري فورونوف، مؤسس شركة أسترا-شيبينغ (مقاول شركة غازبروم)، في حمام سباحة في قرية ريفية في منطقة لينينغراد، نتيجة إصابته بطلق ناري في الرأس. وسقط في أغسطس رئيس مجلس إدارة شركة لوك أويل رافيل ماغانوف من نافذة المستشفى المركزي في موسكو، حيث كان يخضع للعلاج، وذلك بعد فترة وجيزة من دعوته للسلام مع أوكرانيا، ما طرح تساؤلات حول دور للأجهزة الروسية في الحادثة. وفي ديسمبر، تم العثور على أوليغ زاتسيبين، المدير العام لشركة يوريميفنت غاز (شركة تابعة لشركة لوك أويل في إقليم خانتي مانسيسك غربي سيبيريا)، ميتاً في مكتبه.
كما لم يخلُ العام 2023 من العثور على جثث مسؤولين في قطاع النفط. ففي فبراير عثر على فياتشيسلاف روفنيكو، المؤسس المشارك لشركة أورال للطاقة، وهو رجل أعمال نفطي في أواخر التسعينيات وشريك سابق لصهر بوريس يلتسين، ميتاً في منزله. وفي يونيو عثر على دينيس غولودوف وهو رئيس شركة نفط إقليمية في سيبيريا، ميتاً، فيما وصفته السلطات بأنه غرق عرضي. وحينها شككت بعض وسائل الإعلام المحلية في ملابسات الحادث. وفي أكتوبر تم الإعلان عن وفاة فلاديمير نيكراسوف، رئيس مجلس إدارة شركة لوك أويل، بسبب قصور حاد في القلب، فيما عثر في مارس على فيتالي روبرتوس، نائب رئيس شركة لوك أويل، ميتاً في مكتبه في موسكو.

Related News

