
بموازاة ثورة ثقافية هزّت وعي العالم بقضية فلسطين، أو في مواجهتها، ثمّة ثورة عربية مُضادة تتعلّق بالموضوع ذاته، إذ بينما ينتفض العالم وعيًا جديدًا وسليمًا ضدّ عقود من التاريخ المزيّف الظالم، تجد انتعاشة للرواية الصهيونية للصراع، تحتل مساحات شاسعة من الإعلام العربي، أكرّر العربي الشقيق لفلسطين العربية.
عنوان الثورة والثورة المضادة واحد: صمود غزّة أمام آلة الإجرام الصهيوني، المدعوم أميركيًا وأوروبيًا، هذا الصمود الذي أعاد فتح كتاب التاريخ وتطهيره من حشو الأكاذيب والأساطير المؤسّسة لكيان استعماري لقيط، قام على اجتثاث شعب واستئصال رواية حقيقية وتثبيت حكاية كاذبة مكانها.
قلت بعد مرور أسابيع قليلة على الطوفان إنّ حالة من الوعي تسري في جيل الشباب حول العالم، وكأنّ مقاومة غزّة أشعلت ثورة ثقافية تذكّر بثورة 1968 العالمية التي امتدّت من باريس إلى طوكيو إلى الولايات المتحدة والبرازيل والجزائر، والبلاد الأفريقية وحتى إلى المدن العربية، ضدّ الإمبريالية الأميركية التي تشعل الحروب في كلّ مكان في العالم، في ذروة التوحّش الأميركي في حرب فيتنام.
الآن وبعد عشرين شهرًا كاملة من العدوان الإسرائيلي الأميركي، لا تزال روح ثورة الوعي العالمية تسري في عشرات الملايين من شباب العالم وتخلق حالة من الصدمة والفزع لدى الدوائر الصهيونية التقليدية، القديمة جدًا، وكانت ذروة هذا الفزع مع ارتدادات زلزال ثنائي فرقة بوب فيلان البريطانية التي نادت بحرية فلسطين من البحر إلى النهر، وبالموت لعصابات جيش المذابح والإبادة الجماعية، ليغني ويهتف وراءهما أكثر من أربعين ألف شاب هم جمهور الحفل الغنائي، الذي ينطبق عليه المثل القائل "انقلاب السحر على الساحر"، والساحر هنا هو هيئة الإذاعة البريطانية المُنحازة كليًا للعدوان الإسرائيلي على غزّة، حيث قدّمت الفرقة عرضها ليبثّ على منصة iPlayer التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وهو ما شرحه المغني بوبي فيلان قائلاً: "أعلم أننا على منصة BBC، ولن نقول أي شيء جنوني". لكنه أضاف: "لكن للأسف، شهدنا ردود فعل غريبة تجاه من يُعلن دعمه لفلسطين، مع أن أيّ شخص لديه أي حسّ أخلاقي يُمكنه بالتأكيد أن يُدرك أنّ ما يحدث هناك في غزة مأساة".
ردّات الفعل المفزوعة من تأثيرات حفل الثنائي بوبي فيلان تتجسّد في مداخلة لضيف من مؤيدي الاحتلال على بي بي سي، قال فيها بغضب إنّ الخطورة ليست فقط في الهتاف، وإنما في مردّدي الهتاف، والذين هم بنظره من شباب طبقة اجتماعية سوف يخرج منها من يحكمون كلّ شيء في بريطانيا بعد عشر سنوات، من بين شريحة عمرية مثّلها 40 ألف شاب من الطبقات البريطانية العريقة، هتفوا خلف المغني الأسود الشاب. كما دخل على الخط حاخامات وسياسيون أصابتهم عبارة "من النهر إلى البحر" بالرعب فراحوا يعزفون ذلك اللحن البائس المُضحك عن معاداة السامية، تلك الفزاعة المُشهرة في وجه كلّ من ينطق بكلمة حق.
هذه هي ثورة العالم الثقافية، هناك في أقصى الغرب، أما في الشرق العربي السعيد باللهاث خلف التطبيع مع كيان الإبادة الجماعية والتطهير العرقي فسوف تجد النقيض: يطلّ عتاة الصهاينة من رؤساء الحكومات والوزراء السابقين كلّ ليلة على شاشات عربية، يتضاحكون مع المذيعين ويتهمون الشعب الفلسطيني المُقاوم بالإرهاب، ويتحدثون عن الفلسطينيين بوصفهم بقايا جماعة عرقية منقرضة يمكن أن يُسمح لها بالحياة في كنف الاحتلال، وكأن ثمة مشروعًا ثقافيًا تناضل تحت لوائه هذه النوافذ الإعلامية، مستهدفة وعي أجيال عربية ناشئة يجري تدريبها عنوًة على استقبال السادة الصهاينة ضيوفًا على شاشاتهم، وتبلغ المأساة ذروتها حين يصبح ظهور رئيس حكومة الاحتلال السابق إيهود أولمرت فقرة أسبوعية تجعله يعلن أنه بات يفضّل الظهور على شاشة الجزيرة مباشر أكثر من ظهوره على القنوات الإسرائيلية. أنت هنا بصدد نوع من التطبيع الإعلامي أشدّ خطورة مما يفعله عماد الدين أديب الذي بات معلومًا بحكم التجربة أنه يمثل ذلك النوع من الإعلام الأميركي الإماراتي الواضح الصريح في عدائه لفكرة المقاومة وللقطاعات الشعبية الرافضة للتطبيع.
هو أخطر كذلك ممّا يبثه إبراهيم عيسى من سموم تتحدّث عن مقاومة الاحتلال باعتبارها الشر المطلق، إلى الحدّ الذي دفع به إلى إحراق ماضيه كلّه، والتخلّص من أرشيفه، أو بالأحرى الأشياء المحترمة في أرشيفه من المقالات والكتب، مثل كتابه الشهير "المقالات الغزاوية" الذي كتب في غلافه "المقاومة تحارب وحدها ونحن نتفرج، بعضنا يتفرج ونفسه تنهزم المقاومة ويشمت فيها وفينا، وبعضنا يتفرج وهو يصلى ويدعو بالنصر وحين تنتصر المقاومة تأكد أننا لم نشاركها صنع هذا النصر وإذا انهزمت المقاومة تأكد أننا من أسباب هزيمتها".
هذا الكتاب أصدره صاحبه عن دار نشر مصرية عريقة في العام 2009 و طرحه على عديد من منصات بيع الكتب إلكترونيًا، ثم أخيرًا بعد أن صارت المقاومة عدوّه الأول الوحيد، وصار هو مفتونًا بالاحتلال وتقدّم الاحتلال وجماله، اختفى الكتاب تمامًا عن الوجود، ولم يبق منه سوى الغلاف وعبارة تقول "هذا الكتاب غير متاح حاليًا للتحميل أو القراءة لأن المؤلف أو الناشر لا يسمح بذلك في الوقت الحالي".
أهي المأساة أم الملهاة التاريخية والحضارية التي تجعل الانحياز إلى سردية الاحتلال عارًا عند مثقفي ومبدعي وجماهير الدول والحكومات التي صنعته وزرعته في فلسطين، في الوقت الذي تصبح فيه هذه السردية مشروعًا تدفع به مؤسسات وشخصيات عربية تريد أن تزرع في وعي الأجيال القادمة أنهم جيران وشركاء أُصلاء في الجغرافيا والتاريخ؟

Related News

