
لا تتوقّف هذه المقتلة عن دفعك إلى أن تتساءل بينك وبين نفسك، بدهشةٍ وألم، وأن تضرب أخماساً في أسداس، حيث الحيرة التي تتملّكك وتُلقي بك في بحرها العميق، لأنك لا تريد أن تصدّق أن جنون الحرب ووحشيتها قد يصلان إلى هذا الحد، وأن رحاها الدائرة بلا هوادة تلاحق أطياف الحياة في كل مكان، وفي كل لحظة، فيتحوّل المكان الذي يحاول البائسون أن يسرقوا فيه وقتاً مقتطعاً من الموت إلى فخٍّ جديدٍ للموت.
هكذا كانوا يموتون في مقهىً بمحاذاة الشاطئ في مدينة غزة، وهذا المقهى يعرفه القاصي والداني من أهل غزّة؛ فالآباء يعرفونه بأنه وجهة أبنائهم النزقين، المتذمّرين، والفارين من قيود العادات والتقاليد، أما الأبناء فيعرّفونه مكان اللقاءات والصُحبة مع من يماثلونهم عمراً وشباباً وأملاً وأحلاماً.
وحيث تلتقي هذه الشريحة النادرة من مجتمعٍ مركَّبٍ في هذا المكان، فأنت يجب أن تهمس لنفسك بأنه يستحقّ أن يحمل اسم "مقهى الباقة"، فالباقة تتنوّع أشكال (وألوان) ورودها، ولكنها في النهاية باقة تُقدَّم لعزيز، أو تُحمل في مناسبة، ومنظرها يبهج النفس ويشرح الصدر.
ترى في "مقهى الباقة" الشبّان والشابات الواعدين الحالمين، وبعيداً عن نظرة الآباء أن "الولد لا يفسده إلا ولد مثله"، فهم يلتقون هناك، وبمحاذاة الشاطئ تماماً، حتى إذا ما مدّ أحدهم ذراعه، فهو يلامس ماء البحر، وكثيراً ما تناثر رذاذُه فوق الوجوه التي لم تتوقّف عن الأمل والحلم. ولكنها، وفي أتون هذه الحرب، تلطّخت بالدماء في لحظة، حين لاحقها القصف الذي لا يفعل شيئاً سوى قتل الحياة في غزّة، وتحويل كل صورةٍ من صور الجمال إلى دمار وأشلاء وأنقاض.
عرفتُ أن مقهى الباقة هو مقهى الفن والجمال، حين كنت أبحث عن ابني قبل سنوات، بعد أن يغادر مبنى الجامعة ويتأخّر في العودة إلى المنزل في جنوب القطاع. وحين يخبرني أنه يجلس مع صَحْبه في "الباقة"، أعرف أنه لا يزال يمارس ألف هواية ويتأرجح بينها حتى يعرف ما الذي يهوى تحديداً: مرّة يعود إلى البيت حاملاً آلة عزف وقد قرّر أن يصبح عازفاً، ومرّة يعود حاملاً مجموعة من كتب كبار الأدباء الفرنسيين، ومرّة يخبرني أنه أصبح متطوّعاً في مؤسّسة تدعم الأطفال مرضى السرطان، وأنه يزورهم مع رفاق "الباقة".
تشعر، في "مقهى الباقة"، بأنك ترى مسرح الحياة، مع كل هذه النماذج المختلفة والمتضادّة من البشر؛ من فتيات مرسلات الشعر على الأكتاف إلى فتياتٍ مرتدياتٍ الحجاب، ومن شبّان يطلقون اللحى القصيرة إلى شبّان حليقي الرأس وراسمي الوشم على وجوههم وأذرعهم. وتستغرب كيف تجتمع كل هذه التباينات هنا، وتعلو الأصوات بينهم، وكأنهم يتّفقون على أمر واحد: أنهم يريدون الحياة، رغم كل مظاهر الموت البطيء في غزّة، التي كانت تئن تحت الحصار سنوات جاوزت الخمسة عشر عاماً. حتى إذا ما دقّت طبول الحرب الأخيرة، أصبح "الباقة" مكاناً مقفراً موحشاً لشهور وشهور، إلى أن جرى ترميم ما تبقّى منه، وعاد الروّاد يبحثون عن بقايا أحلامهم، بعد أن نالت الحرب من أرواحهم فَقداً وتشرّداً وجوعاً.
لا تعجب إن رأيتَ الشباب والشابات في ذلك المقهى يحاولون التقاط إشارة لشبكة الإنترنت من أجل إنجاز عمل صحافي وتوصيل صوت غزة البائس إلى العالم. ولا تعجب إن لمحتَ فتياتٍ يحاولن التواصل مع العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ليُخبرنه عن أحلامهن الضائعة، وعن خصوصيّتهن المفقودة، وحتى عن فرسان أحلامهن الذين أصبحوا ما بين قتلى ومفقودين ومبتوري الأطراف.
في "مقهى الباقة"، كان هناك مقهى للباحثين عن الحياة، قبل أن يتحوّل إلى خشبة مسرح لعرضٍ سريعٍ للموت، وذلك قبل أيام، حين أصرّ الصاروخ الذي أصاب المكان على أن يعيد تعريف "مقهى الباقة"، ليصبح قبراً جماعيّاً، وصورة أخرى من صور الإبادة الجماعية، فأصبحت المقاعد نعوشاً، والرّمال تحولت إلى شلالات دماء.

Related News

