
لا ينفصل معرض الفنانة المصرية عزة عزت الذي يستضيفه غاليري كرافتاستك للفنون القاهري حتى 17 الشهر الجاري، في أثره عن سياق المكان، فالمساحة التي تُعرض فيها اللوحات تعود إلى القرن التاسع عشر، وهي مجاورة لمجموعة السلطان قايتباي المعمارية في قلب القاهرة التاريخية. تفتح الفنانة مساحة للتأمل في الأساليب التي يتعايش بها الناس مع المدينة وتحولاتها المعمارية، وكيف تعيد التفاصيل اليومية تشكيل المجال العام.
منذ سنوات، تبني عزت مشروعها الفني على التفاعل مع المدينة، لكن لا بوصفها كياناً هندسياً مجرداً، بل جسد حي متحول، محفوف بالمشاعر والذاكرة. أعمالها، كلها بالأبيض والأسود، مرسومة بالأحبار على الورق، تنبع من علاقة عضوية مع الفضاء العمراني، علاقة تُبنى أثناء التنقل مشياً على الأقدام أو بالدراجة أو في السيارة. هذا التنوّع في وسائط الحركة ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء من الطريقة التي ترى بها الفنانة القاهرة، إذ يمنحها المشي مثلاً فرصة تأمل التفاصيل، بينما تسمح لها الدراجة بالجمع بين الإحساس بالمكان والمقارنة بين مساحات وأحياء مختلفة من المدينة نفسها.
تحت عنوان "ما بين المُخطط والمعاش" لا تظهر المدينة خريطةً إدارية أو صورة بانورامية، بل أجزاء متداخلة، محاطة أحياناً، ومقطعة أحياناً أخرى. ترصد الفنانة كيف أن مشاريع التخطيط العمراني الكبرى التي سعت إلى ربط المدينة بعضها ببعض، انتهت في بعض الحالات إلى خلق جدران عازلة بين أحيائها. شُيدت الطرق والجسور لربط الضواحي والأحياء المتباعدة، لكنها في الوقت نفسه عزلت أحياء كاملة وعمّقت الفجوة الاجتماعية.
تخطيط عمراني أداة لإنتاج مساحات من العزل الطبقي والجغرافي
ترى عزت أن التخطيط العمراني، رغم نيّاته المعلنة، لم ينجح دوماً في خلق تواصل، بل صار أداة لإنتاج مساحات من العزل الطبقي والجغرافي. فالحي الفقير الذي تطوقه الجسور أو خطوط القطارات، يبدو كأنه محاط بأسوار، ومنفصل عن حركة المدينة الكبرى، وكأن السكان يُدفعون دفعاً إلى هوامش المكان والرمز. هذه الرؤية لا تُعرض هنا بطريقة مباشرة أو شعاراتية، بل تتجلّى في رسوم دقيقة، تمزج بين التجريد والرصد البصري، وتخلق طبقات من الخطوط والظلال تُحيل إلى المرئي وغير المرئي معاً، أو ما نراه في الواقع، وما نشعر به من قلق أو نفور أو انتماء أثناء عبور تلك الأماكن.
ما يلفت في أعمال الفنانة هو استخدام الأبيض والأسود فقط، بما يعكس اهتماماً بالخُطوط والبُنى، لا بالإبهار اللوني. وهي ليست رسامة مشهدية تقليدية، بل تُشبه إلى حد كبير فنانة معمارية تسائل المدى والعلاقات بين الأجسام والفراغات. وربما يعود ذلك جزئياً إلى خلفيتها الأكاديمية، إذ درست الهندسة في جامعة القاهرة، وهو ما يضيف إلى أعمالها بُعداً بنيوياً واضحاً. في كل لوحة، يظهر سؤال حول الكيفية التي تشكّل بها المدينة أجسادنا ومشاعرنا، وكيف تنعكس التخطيطات الكبرى على التجربة اليومية للسير والوقوف والانتباه. ترسم الفنانة مباني، وجسوراً، وطرقاً، لكن من زوايا غير تقليدية، ومن منظور المستخدم العادي لا المخطط أو المصمم. والنتيجة أن المعمار لا يظهر كتلة صمّاء، بل نسيج من العلاقات والمشاعر؛ علاقات ومشاعر تراوح بين الضيق، والتكرار، والانفتاح، والقلق، والانقطاع. كأن كل مبنى، أو كل تقاطع طريق أيضاً، يحمل أثراً نفسياً ومجازياً في الوعي الجمعي.
لا يمكن فصل تجربة المشاهدة عن السياق المكاني الذي يقام فيه المعرض. فقربه الشديد من المجموعة الأثرية للسلطان قايتباي التي تعود إلى منتصف القرن الخامس عشر، يطرح تجاوراً بين زمنين معماريين: عصر مملوكي ترك أعظم ما لديه من عمران في المقابر خاصة، وحاضر فني يحاول إعادة مساءلة علاقة الناس بالمدينة. يحتل الغاليري نفسه هو الآخر جزءاً من تاريخ الطبقة الوسطى القاهرية وتطور أذواقها المعمارية.
هذه المفارقة بين العمارة القديمة التي تطل عليها مساحة العرض والرؤية النقدية الحديثة للمدينة، تُعطي للمعرض بعداً إضافياً، كأنه يُجري حواراً غير معلن مع العمارة المملوكية، لا بوصفها نموذجاً يجب أن يُستعاد، بل بوصفها نقطة انطلاق لفهم كيف تغيّرت القاهرة، وكيف تغيرنا نحن داخلها.
إن رسوم عزة عزت تجسد طبقات من المشاعر تتكون من تراكب نظراتها المتكررة إلى المكان، ومن محاولات فهمه أثناء السير، ومن تأثير طريقة الانتقال في إدراكه. الرسم هنا لا يسجّل، بل يعيد ترتيب المشهد بما يتفق مع التجربة الشخصية. هذا ما يجعل المعرض يبدو وكأنه مجموعة خرائط نفسية للمدينة، لا تُطابق الواقع تماماً، لكنها تلامسه وتقترب كثيراً منه. هذه الخطوط السوداء المرسومة على ورق أبيض، قد لا تُشير إلى معالم بعينها، لكنها تعكس بلا شك إيقاع الحياة في مدينة القاهرة، والحدود غير المرئية بين ما هو عام وخاص، كما تشير إلى شعور العزلة داخل الزحام.
لا تسعى الفنانة هنا إلى تقديم حلول، ولا إلى نقد مباشر، فما تقوم به أقرب إلى دعوة هادئة لإعادة النظر في الكيفية التي نتعايش بها مع مدننا، وكيف ترسمنا كما نرسمها. فالقاهرة التي تظهر في أعمالها ليست مدينة الماضي المجيد ولا المستقبل الموعود، بل هي المدينة التي نمر بها كل يوم، وقد لا ننتبه إلى ما تفعله فينا. تذكر الأعمال المعروضة هنا بأن المدينة لا تُبنى بالحجارة أو الخرسانة فقط، بل بالتجربة الإنسانية، وبالقدرة على الإصغاء إلى ما يحدث في الشوارع والفراغات والممرات. في هذا السياق، يُصبح الرسم وسيلة مقاومة ناعمة، تضع البشر في قلب النقاش حول العمران، لا على هامشه.
* كاتب من مصر

Related News


