
يشهد النشر في المنطقة العربية فورة، إلى حدّ ما، في الكمّ، مع دخول عدد متزايد من دور النشر سنوياً بطموحات وقدرات متفاوتة، مع ذلك فإن هذا الاتساع لا يوازيه بالضرورة نمو في التخصّص. في ظل هذا المشهد، يُلحّ سؤال جوهري: هل يمكن فعلاً التخصص في حقل فكري أو نوع أدبي معيّن ضمن شروط النشر الراهنة في العالم العربي؟ وهل يستطيع ناشر أن يراهن على سلسلة فلسفية أو شعرية ويكتفي بها، أو على ترجمة أدب أقلّ شهرة من لغات غير رائجة، في سوق محدود، وغياب دعم مؤسسي، وندرة قارئ يُقبل على هذا التخصّص؟
تبرز في العالم العربي نماذج محدودة لدور نشر متخصصة، تحاول أن تشق طريقها وسط سوق يغلب عليه الطابع العام. من بينها دار الكتاب الجديد المتحدة في بيروت، التي تأسّست على يد الناشر الليبي سالم الزريقاني في تسعينيات القرن الماضي، وتحاول تقديم اهتمام خاص بترجمة أعمال في اللسانيات والنظرية النقدية الحديثة، ومثلُها شقيقتها التي تتبع لذات الإدارة، دار المدار الإسلامي، حيث كرّست مشروعها منذ تأسيسها لترجمة ونشر مؤلفات فكرية وفلسفية، مع تركيز واضح على الفكر الإسلامي الكلاسيكي والمعاصر، والدراسات الفلسفية النقدية.
لا يجرؤ الناشر العربي على التخصص ويفضّل المساحات الآمنة
في سورية، نعثرعلى دار سَرْد كمثال على ناشر اختار التخصّص في الرواية، وهو خيار تأسس خلال سنوات الحرب في العقد الماضي، في ظل ظروف إنتاج ونشر بالغة الصعوبة. ورغم أن التخصص في الرواية قد يبدو عامّاً أو تجارياً، خصوصاً أن العديد من الدور الكبرى تلجأ إليه لضمان الاستمرار وتغطية النفقات، إلا أن "سَرْد" حاولت أن تضفي على هذا التخصص طابعاً نوعيّاً، فقد ركّزت الدار على الترجمة النوعية لأسماء بارزة في الأدب العالمي، مقترحة على القارئ العربي أصواتاً متفرّدة من ثقافات متنوعة، مثل الإسباني أنطونيو مولينا، ومواطنه ماريو بنديتي، والغوادلوبية ماريز كونديه، والأميركية كارمن ماريا ماتشادو، والبلغاري فيكتور باسكوف، والنرويجي روي ياكوبسن. وبهذا المعنى، تشكل تجربة "سَرد" نموذجاً لاستثمار التخصّص في حقل أدبي واسع من أجل بناء هوية واضحة ومتماسكة في سوق متقلّب.
في مجال النشر النسوي، أدباً ودراسات، تبرز تجربة دار هُنَّ التي تأسّست في القاهرة عام 2017 كواحدة من المبادرات المستقلة التي سعت إلى تقديم صوت نسوي بديل داخل المشهد الثقافي العربي. منذ انطلاقها، تبنّت الدار توجّهاً واضحاً يقوم على إتاحة المجال للأصوات النسوية المتنوعة. قدّمت "هُنَّ" أكثر من 100 إصدار، جمعت بين الأعمال الأدبية والكتابات النظرية، وأولت اهتماماً خاصاً بترجمة نصوص لمُنظِّرات نسويات بارزات على مستوى العالم، مثل الأميركية بيل هوكس، والفرنسية سيمون دو بوفوار، والهولندية ماريا فوسيه. ولم تقتصر مساهمات الدار على الترجمة فقط، بل سعت أيضاً إلى نشر كتابات لكاتبات عربيات شابات، واحتضان تجارب سردية وشعرية تُعالج قضايا الجسد، والنوع الاجتماعي، والذاكرة، والعنف الرمزي والمجتمعي.
بالعودة إلى ضفّة الأدب تُطالعنا دارٌ قاهرية أُخرى تأسّست عام 2009 وتحمل اسم بعدَ البحر. تعمل الدار في مشروع الترجمة المنتظمة ونشر الأدب الإيطالي حصراً، ولا يبدو أن مشروعاً عربياً آخر قد قارب هذه المنطقة في النشر، فعادةً ما نعثر على الترجمات الإيطالية (أو الآداب الأخرى) منثورة بين دُور عديدة، وبهذا يأخذ النشر المتخصّص طابع المغامرة بفعل تحديده فئات جمهوره سلفاً.
ختاماً، يُعدّ أدب الأطفال استثناءً بفضل انتشاره ووجود دور نشر متخصصة كثيرة في غالبية البلدان العربية تحظى بمساحات معتبرة في السوق والمعارض، فإن باقي أشكال النشر المتخصص لا تزال تعتمد غالباً على جهود فردية ومبادرات مستقلة.
