
في خريف عام 1952، اتخذت السيدة الدمشقية وصْفية النويلاتي قراراً لا رجعة فيه: أن تتسلل إلى حيفا، سيراً على قدميها، مهما كلّفتها المخاطرة، لتلتحق بزوجها إبراهيم علي القزق، والد ابنهما الوحيد عليّ، بعد أن استنفدا كل جهد مع الصليب الأحمر في لمّ شمل عائلة فرّقتها النكبة.
خسرت الزوجة محاولتها. ألقي القبض عليها وسُجنت، ورُمي زوجها في سجن آخر، بينما بقي طفلُها عليّ ذو الخمس سنوات في عهدة جدته وخالاته، وسيكبر في دمشق، يتشرب في زمانه الذاتي صوراً تتشظى في الدم، يعيها ويروّضها، ليحمي جسده الذي يضج بأسئلة "من أنا؟ ولماذا أنا؟ من أولئك الغرباء الذين أتوا من التاريخ الهمجي ليخطفوا وطني ويشردوا شعبي؟".
مأساة الجماعة الكبرى مأساة نسغ واحد مطبوع في ملايين الأرواح، لكل روح اسمها الثلاثي وكل واحدة تروي. نجَت وَصْفية لتروي حكايتها، وتُصنّف في حيفا المحتلة مواطنة سورية من دولة معادية لإسرائيل، ونجا زوجها إبراهيم ليروي كيف جرّده الصهاينة من ممتلكاته وسيصنف عربياً مواطناً في الدولة العبرية.
سينجو عليّ الابن، ليكون تصنيفه لاجئاً فلسطينياً، وسيخبرنا الكثير من خلال سيرته "أستراليا وفلسطين.. نضال في المنفى البعيد" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2025) عن جهات أربع دفعته إليها حقائق سياسية ظالمة لم تكن لتقع لولا فارق القوة الفادح بين "مجرد" صاحب أرض وحق، وسارقهما، وكذلك عن خياره العنيد في مواجهة كل ذلك.
أخبرنا عمّن صادفهم في هذا النضال، كما لو كانت المصادفات قانوناً يرسم حياة هؤلاء الذين عرفوا كيف يحافظون على المعنى المبسط للنكبة، كيف يشرحونها لعقل بشري من عمر الخامسة حتى التسعين.
أقام أول معرض للصور والملصقات عن فلسطين نهاية السبعينيات
عاش هؤلاء وماتوا وولدوا على طريق ملهم، حتى جاء يوم 17 مايو/ أيار الماضي عندما توقّف علي القزق ترانزيت في بانكوك، ولم يتمكن قلبه من قطع مسافة أطول نحو فلسطين، فعاد إلى كانبيرا في تابوت.
قبل شهرين، كان يتعافى من عملية في القلب، وانتهت أخيراً مفاوضات الجسد مع الحياة بعد إتمامه سنته الثامنة والسبعين، مختتماً أكثر من نصف قرن من النضال باسم فلسطين والعرب، في هذه المنطقة الشاسعة البعيدة، التي تشمل أستراليا أولاً القارة الجزيرة العملاقة، ونيوزيلندا، وأرخبيلات صغيرة من دول جنوب المحيط الهادئ.
لم يحق له في يوم أن ينام دون مواجهة ماكينة الصهيونية الراسخة منذ أكثر من قرن، عميقة التمويل، المتمكنة في مفاصل الدولة ومن ذلك الإعلام والبرلمان، بما تيسّر من أدوات. ولم يكن مسموحاً له أن يتحرك للدفاع عن قضيته بما تقتضيه أدبيات العدالة، لأنه لم يكن في أستراليا طرفان في صراع، بل واحد أسطوري منتصر.
مع ذلك فإنه بعد قراءة كتاب السيرة يمكن للقارئ أن يقف مع أستراليين، وأجانب، وعرب وآخرين من مختلف الجذور والانتماءات، ويعاين أثراً لشخص واحد، آمن بقوة بأن قليلاً من الحق، يمكن أن ينتصر على كثير من الباطل. وما الباطل سوى منظومة صهيونية ظلت شرسة في محاربة أي إشارة إلى وجود شعب فلسطيني في أستراليا تحديداً ثم ما حولها.
اختير القزق في 1980 ممثلاً لمنظمة التحرير في أستراليا، وأسس في 1982 المكتب الإعلامي الفلسطيني والذي اعتبر في عام 1989 ممثلاً رسمياً للمنظمة، وحتى 2006 كان المفوض العام لدولة فلسطين في أستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب المحيط الهادئ.
وقبل هذه البيانات الرسمية في بطاقة التعريف وبعدها، تتحول قصة علي القزق إلى سردية، وقد كانت مؤهلة لذلك واستعملها الراحل في مواجهة اللوبي الصهيوني المدجج. فهو لاجئ فلسطيني حرمته النكبة من رؤية والده حتى عام 1995، وبالتالي من رؤية عائلة طبيعية مكتملة. كان يمكن وهو يحب التجارة ودرسها في الجامعة، أن يرث تجارة أبيه في الحبوب والمعلبات، أو أن يمارس تجارة الأقمشة والنسيج عند أخواله الشوام، الذين ينتسبون إلى عائلة اتخذت من النول اسمها، أو أن يصبح عازف ترومبيت في فرقة جاز، إذ كان يعزف عليها في مطلع شبابه، أو أن يصبح " معلّم جغرافيا أو خبيراً بمملكة النمل، أو حارساً للصدى"، كما ذهب الشاعر في قصيدة "لاعب النرد" أو أياً من احتمالات القدر والمصادفة.
لو كان فقط سليل عائلة حيفاوية ضمن الساحل السوري من غزة إلى اللاذقية، لمضت الحكاية من هنا، من حيفا، حيث إبراهيم القزق تاجر حبوب بالجملة، وبمواد غذائية معلبة، يزور دمشق ويتعرف إلى شخص، ويصدف أن يرى شقيقته، فتقع صورتُها في قلبه ويطلبها، ويعقد القران، وبعد بضعة أشهر تسافر العروس مع شقيقين في القطار من دمشق إلى درعا إلى الحمّة قرب طبريا، حيث كان عريسها ينتظرها في المحطة.
الجغرافيا الشامية كلها مقسمة إلى جهات، حيث فلسطين في لسان العرب من كلمتين وحرف جر "كورة في الشام"، ولبنان جبل، والأردن بادية، قبل أن تصبح وحدات سياسية، باتت فلسطين الأكثر نهباً في وجودها، وفي اسمها ذاته الذي تعرض لعوامل حت وتعرية متعمدة.
لم يحق له في يوم أن ينام دون مواجهة ماكينة الصهيونية الراسخة
وصل المرسال يفيد بأن الجد في دمشق مريض في المستشفى ويريد أن يرى أول حفيد له. وقد كان، إذ وصلت الأم وصفية حاملة طفلها عليّ ابن العشرة شهور في شهر فبراير/ شباط 1948، وفرح جده حتى أنه استرد عافيته، وطلبت العائلة من وصفية أن تمكث قليلاً، وهذا القليل بلغ بالحكاية حتى 21 إبريل/ نيسان اليوم الذي سقطت فيه حيفا في يد العصابات الصهيونية.
لم يسمح أهل وصفية لابنتهم أن تغامر في العودة، وطلبوا منها التريث ريثما تهدأ الأوضاع، و"ريثما" هذه ستصل إلى عام 1952، في الربع الأخير من ذلك العام الذي سنّت فيه إسرائيل قانون الجنسية، وظل العرب فيها تحت الحكم العسكري المباشر حتى عام 1966، وكلّ فلسطيني عليه أن يثبت وجوده في الأرض المحتلة بشروط تعجيزية بين عامي 1949 و1952، ويمنع بتاتاً لمّ شمل أيّ عائلة، بينما صار من حق أي يهودي في العالم الحصول على الجنسية.
تركَت الأم طفلها عليّ، وشقّت طريقها من دمشق إلى عمّان، ثم طولكرم، فقرية عتّيل شمال شرق المدينة التي منها ستبدأ عند السادسة مساء المرحلة الأصعب في عبورها برفقة نفر من المتسللين، مشياً مدة يوم ونصف، يسوقون معهم حماراً عليه مؤونة الطريق، ويقطعون تضاريس الريف، حذرين من مصادفة جنود صهاينة يجوبون الأرجاء.
كان رهانها أن تلتقي زوجها في حيفا، لعل الضغط الإنساني يفلح في إحضار طفلها عليّ من دمشق، بعد أن تفرقت العائلة أربع سنوات. لم يصدق الرجل ما رأته عيناه حين دخلت وصفية حوش البيت، وما هي إلا سويعة حتى عم الخبر، ولم تكن عين ويد سلطة الاحتلال بعيدتين، إذ هجمت في صباح اليوم الموالي، واقتحمت الدار، واعتقلت الزوجين.
مكثت وصفية 47 يوماً في السجن، وزوجها بضعة أيام، ثم ظل يجاهد مع أحد المحامين حتى يفرجوا عنها، لكنه لم يستطع رؤيتها، وسيقت المرأة إلى حدود لبنان، وسجنت بضعة أيام في سجن خشبي، ثم أطلقت تلاحقها صيحة من أحد الجنود "إذا تطلعتي ورا رح نطخّك"، ومشت حتى وصلت قرية لبنانية سلّمتها إلى الدرك الذي احتجزها عشرة أيام للتحقيق قبل أن يفرج عنها وتصل أهلها، وهي ذاهلة والقمل يملأ رأسها.
يستمع وزير الخارجية الأسترالي الأسبق بوب كار (1947) إلى القصة، ولا يشيح بوجهه، بل يصيخ السمع ويطلب المزيد، في الوقت الذي يحاول اللوبي الصهيوني إخراس عليّ. لقد رأى هذا الأسترالي بقلبه كيف توضع قصة عائلة نووية في مكانها نيابة عن عائلة ممتدة، تضمن بجدارة مقولات فلسطين وصورها الرمزية عن العودة، ومقاومة التشرد، والنسيان، والاقتلاع. يكتب كار قطعة صغيرة آسرة يقدم بها كتاب صديقه فيقول: "بعض القصص قد تستحق أن تروى، أما بعضها الآخر فيجب أن تجد طريقها إلى الآذان"، بل أبعد من ذلك يشير كار إلى المعنى الحقيقي للنكبة بعبارة "لقد أخذوا بلدنا بالقوة". لكم تبدو هذه العبارة واضحة ومكتسية قوتها وجذريتها من وضوحها. هذا هو إذن: لقد أخذوا فلسطين بالقوة.
لقد بلغ اليأس مبلغه مع استحالة لقاء والدي عليّ ثانية. انفصلا ثم تزوجت أمه عام 1955، وتزوج أبوه عام 1959، وكبر عليّ في حاضنة عائلية شامية من جهة الأم، وصار له إخوة وأخوات جدد، غير أنه فقد لسنوات طويلة أي تواصل مع والده الباقي في حيفا، بينما ظلّ على صلة مع أقارب من أبناء العمومة وعائلاتهم باتوا لاجئين مثله في سورية.
حين وصل عام 1968، وافق عليّ الطالب في كلية التجارة على الالتحاق بحركة فتح، وعلى مدى السنوات اللاحقة منذ وصوله إلى أستراليا عام 1970، بقي على علاقة مثمرة مع قيادات فتح، وخصوصاً أبو جهاد.
كانت اقتراحاته السياسية لبناء تمثيل فلسطيني في أستراليا ونيوزيلندا ودول جنوب الهادئ تقطع أشواطاً بجهود ذاتية وتمويلية في بعض الأحيان، لا بل امتد نشاطه إلى جنوب أفريقيا التي زارها لمعاينة واقع التحالف الاستراتيجي بينها وبين إسرائيل، وإمكانيات القوى التي تناهض نظام الفصل العنصري.
تجد في هذا المكان البعيد اتحاداً باسم الاتحاد العام لعمال فلسطين، ومنتديات للجالية الفلسطينية والعربية، وهيئات تضامنية يجتمع فيها أستراليون من مشارب فكرية تقدمية، كلها تشهد على الدور القيادي والريادي له، وتشهد له قوى اللوبي الصهيوني من جانب معاكس حين تحاربه بضراوة وتهدده بالاغتيال.
أستراليون من مختلف الجذور والانتماءات، من البيض والأصليين والسود المنتمين للفكرة النضالية السوداء، سواء أكانوا أفارقة أم أصحاب الأرض في أستراليا وما حولها، ومن العرب وغيرهم، قرأوا مجلة Palestine Free التي صدرت من 1979 إلى 1990، التي ساعده فيها الناشط في التضامن مع فلسطين فرانس تيمرمان.
لننظر إلى ما قاله تيمرمان حول خلاصة هذه السنين في سيرة علي القزق الغنية بالتجربة والمعرفة والدفق القلبي والذهني: "لم يقدّم أحد أكثر مما قدّمه عليّ في تثقيف الناس والدفاع عن فلسطين".
رندة عبد الفتاح الكاتبة الأسترالية (المصرية الفلسطينية مواليد 1979) قالت فيه: "لقد عاش عليّ وتنفس قضية فلسطين.. فقدان أيّ من شيوخنا هو فقدٌ جماعي للتاريخ والذاكرة".
ورفيق دربه غاري فولي المؤرخ والناشط الحقوقي من السكان الأصليين (1950) كتب بحرقة: "نحن صديقان مقربان منذ السبعينيات، عندما كان ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في منطقة المحيط الهادئ. هو أول فلسطيني يتحدث إلى جانبي في تظاهرات حقوق أراضي السكان الأصليين".
وكان فولي هو من افتتح أول معرض للصور والملصقات عن فلسطين نهاية السبعينيات، أقامه القزق وأثار به موجة غضب عارمة من اللوبي الصهيوني. جمع مئات الملصقات وغيرها من القطع التراثية بطلب مباشر من خليل الوزير أبو جهاد الذي كلف مطبعة منظمة التحرير في بيروت بتجهيز المطلوب.
توسعت معارض فلسطين لتشمل فوق الملصقات والصور والمفردات التراثية لوحات من فنانين وأفلاماً وثائقية. وقد طلب القزق من الفنانين التشكيليين الأستراليين والعرب أن يقدموا لوحاتهم للمعرض بوصفها وديعة، ومن ضمنهم كمال بلّاطة وفلاديمير تماري، ريثما يؤسس متحف فلسطيني. وبالفعل سلم الرجل عام 2015 كل المقتنيات إلى متحف فلسطين، ويمكن لأي قارئ أن يشاهدها على موقع المتحف الإلكتروني.
حين صدرت رواية "عائد إلى حيفا" عام 1968 كان عليّ يحتفظ بنسخته الخاصة العزيزة على قلبه والجارحة من عائدة إلى حيفا. كان عمره 21 عاماً منخرطاً في العمل السياسي وهو في سلك الدراسة بجامعة دمشق.
ولو شاءت المصادفات لالتقى الشاب الأصغر سناً ذاك الشاب الأكبر سناً غسان كنفاني، وحكى له عن الأم وصفية التي عادت لتخسر آخر ما تبقى لها، والثانية صفية بين ورق الرواية وقد كانت عادت وحدقت بعينيها في كل ما فقدته، وتأملت، بل توسلت أن تسترده لكن بلا طائل.
ولو شاءت لالتقاه كنفاني مثلما التقى المناضلة وداد القمّري (1939-2022) مرة واحدة استمع فيها إلى قصتها فكتب رواية "برقوق نيسان" غير المكتملة، إذ لم يقيّض لصاحبها أن يكتب المزيد، فقد فجر الموساد جسده عام 1972 فهل بهذا تكون غير مكتملة؟ إن ثمة نسخة شعبية شفوية تتناقلها الألسن، وفي فيلم "احكي يا عصفورة" سنرى وداد تحكي وتحكي.
عادت الأم إلى حيفا بجسدها وتاريخها الموثق بالسنة واليوم والساعة، وعادت الأم في الرواية بشرطها الروائي وزمنها الذي يخلقه الكاتب، ويدير مجرياته، فيصبح من فرط واقعيته حاكياً بعضاً من كل واحد منا.
كم علينا أن نتخيل في بضع سنوات بعد النكبة استشهاد أكثر من خمسة آلاف فلسطيني، حاولوا العودة، فلم يستطيعوا الوصول. كل واحد منهم انتهت رحلته حيث سقط في مكانه على التراب، حاول وضاعت منه فرصة الحياة في البلاد، وفرصة أن يتشرد في بلاد الآخرين.
محاولة الأم كانت مهددة بالموت كل لحظة مع وجود قناصة يتربصون بكل نأمة، بينما رواية "عائد إلى حيفا" استلهمت من الفسحة التي أتاحتها إسرائيل بعد 1967 لإمكانية زيارة فلسطينيين ذويهم ممن بقوا في فلسطين المحتلة 1948، فجاءت المواجهة الحادة بين الفكرتين الفلسطينية والصهيونية، دون أن يكون شرط أي منهما مرتبطاً بالوجود البيولوجي.
شاهد عليّ أباه عام 1995. رافقه أخوه وأخته اللذان رآهما لأول مرة من القدس إلى البيت في حيفا، حيث كان الرجل العجوز المحطم الجسد ينتظر ابنه على الشباك، وعانقا بعضهما بما لا تصلح اللغة للتعبير عنه، إذ فقد الاثنان أي قدرة على الكلام، حتى حين تحادثا هاتفياً عام 1985 في مصادفة غريبة، ارتبك الأب الذي يسمع صوته ابنه، فما وجد للتعبير عن أبوته سوى سؤال الابن: هل تصلّي؟".
والحال دائماً كما ينبغي أن يعاد ويعاد، مع العائدين إلى حيفا أو أي مسقط رأس فلسطيني، سواء في البلاد أو الشتات أو المخيمات، هو أن الأرواح الفلسطينية التي تتطاير كغبار الطلع في الربيع، وندف الثلج في الكوانين لا تشبه أي واحدة منها الأخرى إلا في صميمها، الصميم الذي يجعلنا نواصل الطريق ويردد كل لسان: "سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخره".

Related News

