
ظلت وسائل الإعلام في سورية خاضعة لسيطرة كاملة من حزب البعث الحاكم منذ الستينيات وحتى وقت ليس ببعيد تماماً. فبعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، تم اختزال العمل الصحافي في ثلاث صحف رسمية فقط: "البعث"، "تشرين"، و"الثورة". وقد جرى ذلك في إطار قانون المطبوعات الذي منح الدولة سلطة مطلقة في الرقابة.
كان يمكن إيقاف أي منشور أو منعه بالكامل في سورية وفق نظام رقابي صارم. كما أن الإذاعة والتلفزيون بقيا تحت سيطرة الدولة المباشرة، من دون أي مجال للتعدّدية أو الاستقلال أو العمل الخاص حتى جاءت قناة دنيا، الخاصة التابعة لرجال أعمال النظام (تأسّست بشراكة بين سبعة رجال أعمال قبل ان تصبح بالكامل لمحمد حمشو)، التي عدلت المشهد قليلاً، لكنها لم تخرج من عباءة سردية ناظم الأسد وآلته القمعية. وبموجب قانون نقابة الصحافيين الصادر عام 1990، لم يكن يُسمح لأي صحافي بالعمل من دون الانتماء إلى النقابة التي تفرض الالتزام بأهداف حزب البعث وتعاقب من يخالفها، كما حصل مع صحيفة الدومري الناقدة التي أغلقها الأمن السوري. ومن ناحية الوصول إلى المعلومات والمؤشّرات، كانت سورية قبل الثورة تعاني من احتكار رسمي لهذا الحق من خلال "المؤسّسة العامة لتوزيع المطبوعات" التي أُنشئت عام 1975، والتي كانت تمارس رقابة مسبقة على جميع المنشورات، ولها صلاحية رفض كمية توزيع أي منشور أو تعديلها أو خفضها من دون الرجوع إلى الناشر.
أدّى سقوط النظام إلى انفجار واسع في المجال العام في سورية وانعكس على الفضاء الرقمي
ومع انطلاق الثورة السورية في 2011، ظهرت حاجة ملحّة إلى وسائل إعلام بديلة، فقد عمد النظام إلى حجب التغطية الإعلامية وإغلاق مكاتب كبريات المؤسّسات الإعلامية ومنع دخول الصحافيين الدوليين، ما دفع الناشطين السوريين إلى إنشاء منصّات إعلامية مستقلة تعبر عن صوت الشعب. خلال عامين فقط، ظهرت أكثر من 80 مطبوعة ومنصة إعلامية، تغطي أخبار المناطق التي تنشط فيها وتعبر عن تطلعات الناس إلى الحرّية والكرامة. وبذلك، أصبح الإنترنت الوسيلة الوحيدة تقريباً للوصول إلى المعلومات. استخدم السوريون منصات مثل فيسبوك وتويتر وسكايب بشكل واسع، كما أطلقوا مشاريع إعلامية رقمية داخل سورية وخارجها. إلا أن هذا الاعتماد على الإنترنت يواجه تحدّيات مستمرّة بسبب انقطاع الكهرباء وسوء البنية التحتية وانعدام الوصول الحر والآمن للمعلومات بدون رقابة وتعقب واعتقال من السلطات الأمنية. حينها؛ ظهرت التنسيقيات المحلية وصفحات أسّسها نشطاء بأسماء وهمية لتفادي عمليات النظام والمداهمات. كان التفاعل قليلاً من السوريين داخل سورية لحساب تفاعل أكبر من المغتربين والعالم المتعاطفين مع الثورة السورية. خفّ بريق هذه الصفحات والحسابات بسبب التضييق الأمني والإلكتروني وظهور حسابات للجيش السوري الإلكتروني الموالي للنظام، والذي دأب على قطع الطريق أمام النشاط السياسي المعارض لنظام الأسد. ونتيجة اعتقال معظم القائمين عل هذه التنسيقيات، أو انتقال بعضٍ منهم إلى برامج المصالحة الوطنية والتسويات الأمنية، وتخليهم عن النشاط الثوري، وانتقال هذه الصفحات إلى مسار جديد من التعاطي مع مشكلات المجتمع المحلي والخدمات. بقيت هذه الصفحات على هذه الحال، حتى بدء عملية ردع العدوان التي قادتها الإدارة العسكرية لهيئة تحرير الشام وغرفة عمليات الفتح المبين، ليعود النفس الثوري لهذه الصفحات، وينخرط فيها السوريون من داخل سورية وخارجها، مع تبدّل واضح في الآراء والتوجهات السياسية والأمنية لهؤلاء، سميا بعد الخلاص من نظام الأسد.
سقوط نظام الأسد ومسار حرية التعبير
شكّل سقوط نظام الأسد لحظات فارقة في تاريخ سورية والسوريين، لكن هذا السقوط لم يتّبع بالضرورة عملاً جادّاً وحقيقيّاً ضمن مبادئ التحول الديمقراطي والعدالة والمساواة في الحقوق والانتشار الأفقي للحرّيات، لا سيما حرية التعبير. أدى هذا السقوط إلى انفجار واسع في المجال العام، وانعكس على الفضاء الرقمي. آلاف الصفحات، المنشورات، المداخلات والتحليلات باتت تصدر عن مختلف فئات المجتمع السوري كافة (النخبويون، الشعبويون، الواقعيون...)، في ظاهرة يمكن أن نطلق عليها مصطلح "فرط حرّية التعبير"؛ والذي يطرح إشكالية مفصلية: هل يعكس هذا التدفق الكلامي تحرّراً حقيقياً أم أنه مجرد فوضى مؤقتة نتيجة انهيار الرقابة المركزية؟ وهل يمكن أن يُقرأ علامة على صعود سورية في مؤشرات حرية الصحافة والحريات المدنية والسياسية، أم أنه يعكس هشاشة الانتقال وغياب البنية التحتية الديمقراطية؟ يمكن تحليل الظاهرة ضمن مقاربة نظرية وميدانية، تتيح لنا تقديم توصيف منطقي لحالة حرية الرأي والتعبير في الحالة السورية. سياسياً، أدّى انهيار نظام الأسد إلى فراغ سلطوي في دمشق، تقاسمت أطراف محلية ودولية السيطرة على مناطق النفوذ. وفي غياب حكومة مركزية قادرة على فرض الرقابة، سادت حالة من السيولة في المجالين، السياسي والإعلامي، مع ظهور نشاط غير مسبوق في نقل الخبر وتناقل المعلومات المصوّرة والمسجلة والمكتوبة بدون رقابة حقيقية من سلطة إعلامية ومرجعية تتمتع بأخلاقيات ومهنيات الصحافة بوصفها عملاً مجتمعياً وسياسياً ينتقل بالبلاد إلى درجات أعلى في مؤشرات الحرية العالمية. وفق تقرير صادر عن المركز السوري للعدالة الانتقالية (2025)، فقد شهدت الفترة بين ديسمبر/ كانون الأول 2024 وإبريل/ نيسان 2025 إنشاء عدّة منصّات وحسابات إعلامية إلكترونية، بين منصات فردية وصفحات إخبارية محلية. إلا أن معظمها لم تلتزم بأي ميثاق تحرير أو معايير مهنية، واعتمدت أساساً على التمويل السياسي الموجّه أو المبادرات الفردية التطوعية التي تسعى إلى الحصول على فرصة ظهور وتمويل في سورية الجديدة. تحوّلت هذه المنصات من دورها المفترض ساحة إلكترونية يمارس فيها المستخدمون حرّية تعبير إلى ساحة قمع وتكميم أفواه وتعالي سياسي ومجتمعي تبرُز فيه الطبقية والولاءات والانتماءات الحزبية والطائفية والمناطقية بوضوح، لكن هذه المرّة من مستخدمين أنفسهم، وليس من سلطة قانونية أو أمنية تابعة للحكومة الجديدة في دمشق؛ لا سيما وأنه لم يُعتمد أي قانون جديد للصحافة أو لحماية حرّية التعبير، ما يعني استمرار الفراغ القانوني الذي يحكم المجال العام، وبالتالي السماح لفوضى "الميديا" و"التريند" و"التشبيح الإعلامي" بالاستمرار مع تغييب للمنطق والواقعية.
حرّية التعبير والانفلات الإعلامي
يمكننا هنا التمييز بين “حرّية التعبير"، باعتبارها حقّاً مدنياً محمياً بقوانين ومؤسّسات، وما يُسمّى "الانفلات الإعلامي" الذي يظهر غالباً في المراحل الانتقالية بعد انهيار الأنظمة، في غياب مؤسّسات إعلامية منهجية وأخلاقية تنقل الصورة وتقدّم معلومات واضحة ورسمية؛ بعيداً عن جهل المؤثرين واستغفال المتابعين وإغراق السوريين في مستنقع الخوف من التعبير وفخ الاتهام بالعمالة والتخوين و"الفلولية"، مع ظهور واضح للأجندات والممولين أنفسهم في عدة صفحات ومجموعات يتابعها ملايين السوريين. في حالات العدالة الانتقالية والتحوّل من السلطوية إلى الديمقراطية، نعتبر أن حرّية التعبير لا تكتمل إلا بوجود شروط أربعة تتضمّن: تعددية إعلامية حقيقية تضم مجموعة مؤسّسات حكومية وشبه حكومية، وخصوصاً مع وجود صفحات مستقلة لا تتبع لأجندات؛ ووجود نظام قضائي مستقل يضمن الحق في التعبير لجميع المستخدمين (سواء بالمعنى التقليدي بصفتهم صحافيين وإعلاميين أو بالمعنى الحديث الذي يشمل الصحافي المواطن Citizen Journalist)، وإطلاق مؤسّسات صحافية وإعلامية ومؤسسات راعية لعمل التواصل الاجتماعي تتمتع بمهنية تنظّم الأداء الصحافي وتراقبه؛ وامتلاك المستخدمين ميزات الوصول للمعلومة الآمنة و الدقيقة وغير المتحيزة لتجنب الشائعات والأخبار الكاذبة والمضلّلة. وهذا ما لا نجده في الحالة السورية، حيث يجعل غياب هذه الشروط من الانفجار التعبيري تعبيراً عن ردّ فعل أكثر من كونه مؤشّراً على ديمقراطية ناشئة في مجتمع ما بعد السلطوية الأسدية.
وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً هشّاً
باتت منصّات مثل فيسبوك وتليغرام وإكس وانستغرام منابر أولية ووحيدة للتعبير عن الرأي في سورية ما بعد النظام. غير أن الاعتماد الكامل على هذه الوسائل يطرح تساؤلات جوهرية حول غياب المصداقية وأخلاقيات العمل الإعلامي حيث إن نسبة كبيرة من المنشورات لا تستند إلى مصادر موثوقة. بمتابعة مؤشر منصّة مسبار للأخبار الزائفة والمضللة (https://www.misbar.com/analytics)، يتضح أن سورية في المرتبة التاسعة في تصنيف شهر أغسطس/ آب 2024، بواقع ستة أخبار كاذبة جرى رصدها؛ بينما تصدّرت المؤشر بالمرتبة الأولى بدءاً من ديسمبر/ كانون الأول 2024 برصيد 140 معلومة كاذبة ومضللة من حسابات تستخدم صور متشابهة مع إهمال إدخال المعلومات الأساسية، في إطار عمل قريب من الجيوش الإلكترونية. وفي يناير/ كانون الثاني، وبحسب المؤشّر نفسه، حافظت سورية على المرتبة الأولى بواقع 40 خبراً، وفي مارس/ آذار وصل عدد الأخبار التي تحققت منها المنصّة 65 خبراً بين مضلل وكاذب، ومفبرك، وانتقائي، وإثارة.
تشتمل الاخبار التي يتداولها المستخدمون في ظل هذه الفوضى على معلومات سياسية وأمنية واقتصادية مفبركة، بالإضافة إلى أخبار ذات طابع ديني طائفي، شأنها إثارة النعرات الطائفية والتحريض، لا سيما في أيام أحداث الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي (2025)، بهدف توجيه الرأي العام، مع ملاحظة تنوّع في أساليب ترويج هذه الأخبار، إما عبر استخدام فيديوهات قديمة أو فبركة مقاطع وتصريحات على لسان رجال الدين والسياسة. كما لعب الاستقطاب السياسي والتمويل الخارجي دوراً في تعزيز وجود صفحات عديدة تخدم سردياتٍ معينة، ما يؤدّي إلى تزييف المجال العام وتوجيه الرأي العام مع غياب المحاسبة القانونية التي تحدّ من تبني تجارب دول، مثل ليبيا ومصر وتونس بعد ثورات الربيع العربي، حيث أظهرت النمط نفسه المتمثل بانفجار تعبير غير منظم لم يُترجم إلى ديمقراطية مؤسّسية.
تسمح هذه الغوغائية بظهور حساباتٍ فردية أو صفحات مثيرة للجدل، مع تعويم وإعادة تدوير أسماء قديمة حديثة، أبرزها حساب باسم رجل الأعمال السوري الموالي سابقاً لنظام الأسد، رامي مخلوف، الذي يدأب على نشر الطائفية والتفرقة والتحدّث باسم طوائف كاملة في حالة من الطائفية المتخيلة، ويتبعهم مستخدمون حقيقيون أو وهميون، في حالةٍ تعكس مدى فوضوية التواصل في النموذج السوري. التعليقات على هذه الحسابات طائفية، وشعبوية، وإقصائية، لا يمكن حصرها بطائفة معينة، حيث الحسابات المحسوبة على الطائفة السنية تهاجم الحسابات المحسوبة على الطائفة العلوية؛ او العكس، ما يفضح الانقسام السياسي والطائفي والاجتماعي في البيئة السورية من دون أن ينبئ هذا التداول عن صعود في مؤشّر الحرّيات الفعلية.
لا تظهر سورية بعد سقوط نظام الأسد أي تقدّم جوهري على مستوى حرّية التعبير والحرّيات السياسية، رغم أن الفضاء الرقمي مفتوحاً
قراءة لمؤشّرات الحرية
ظهرت الحرية، في الحالة السورية بعد ديسمبر/كانون الأول 2024، في شكل فوضوي، غير مقنّن، ومرتبك؛ الأصوات فيه متداخلة، والسلطات متعدّدة، والمؤسّسات غائبة. التفاعل السياسي عبر الإنترنت لا ينشئ الديمقراطية، لكنه يعيد تشكيل شروطها" بما يتناسب مع متطلبات مرحلة جديدة على السوريين. ما نراه اليوم ليس ممارسة حرية سياسية ناضجة، بل فرط تعبير سياسي غير مؤسّسي، أقرب إلى حالة انتفاضية دائمة، يهيئ لمناخ عام فيه الريبة والشك من أي ممارساتٍ لحرية عامة. لا يكفي انتشار التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي للدلالة على تحسّن واقع الحريات. فمؤشراتٌ مثل بيت الحرية Freedom House ومراسلون بلا حدود Reports without Borders تعتمد على حجم التعبير كمّياً، بل تقيّمه عبر منظومة معقدة من المعايير، أهمها وجود مؤسّسات إعلامية مستقلة ذات طابع مهني وغير خاضعة للولاءات السياسية أو المناطقية، مع قياس مدى انتشار العنف أو التهديد ضد الصحافيين والنشطاء؛ وقياس مستوى التدخّل الحكومي في تنظيم الإعلام ومنح التراخيص، وفحص وجود تشريعاتٍ واضحةٍ لحماية حرية الرأي والتعبير، في ظل تقييم قدرة المجتمع المدني على التنظيم والمشاركة بحرية من دون ترهيب أو قيود أمنية أو قيود مجتمعية أو حتى قيود أو عنف.
في ضوء هذه المعايير، لا تظهر سورية بعد سقوط نظام الأسد أي تقدّم جوهري على مستوى حرّية التعبير والحرّيات السياسية. ورغم أن الفضاء الرقمي أصبح مفتوحاً بصورة غير مسبوقة، إلا أن هذا التحرّر الافتراضي لم ينعكس في الواقع المؤسسي، فلا تزال البلاد تفتقر إلى مؤسّسات إعلامية مستقلة، تعمل ضمن إطار قانوني واضح، ومنظومة قضائية تحمي الحرّيات العامة وتمنع تسييس القضايا الصحافية والعمل الإعلامي، وصحافة استقصائية قادرة على كشف الفساد والانتهاكات دون خوف من العواقب وشرور تهم التخوين والعمالة وعدم الانتماء وزعزعة أمن الدولة الجديدة. على العكس، العشوائية في الإنتاج الإعلامي، والانقسامات السياسية والطائفية التي توجّه الخطاب الإعلامي، كلها مؤشّرات على أن الانفجار الكلامي لا يمثل نضجاً ديمقراطياً، بل يعكس هشاشة البنية السياسية والاجتماعية في سورية ما بعد الأسد؛ وهذا إرثٌ ثقيلٌ من تركة منظومة القمع الذي مارسته مؤسسات نظام الأسد.
يؤكّد تقرير بيت الحرية لعام 2025 هذه الخلاصة (Freedom House. (2025). Freedom in the World Report: Syria. Via https://freedomhouse.org/country/syria/freedom-world/2025)، حيث لا تزال سورية تقبع في المرتبة 176 من أصل 180 على مؤشر حرية الصحافة، وتحمل رصيد -3 من 40 مؤشر الحرّيات السياسية و8 من 60 على مؤشّر الحريات المدنية مع توصيف للوضع العام بأنه تحرر فوضوي غير مؤسّسي، ما ينبئ أن حالة "فرط التعبير" أو "فرط الحرية " بعد سقوط النظام السوري لا يُعدّ مؤشراً كافياً على تحسّن حقيقي في مؤشّرات الحرّيات. بل على العكس، فإن هذا الانفجار غالباً ما يكون دلالة على انهيار آليات الضبط والتقنين والعمل المدني الحقيقي. وبالنتيجة، ما تزال حرّية التعبير في سورية بعد الأسد فعلاً فردياً أكثر منها منظومةً محميّة بقانون ومؤسّسات. ومع استمرار غياب السلطة المركزية، وتعدّد سلطات التعيين، تبقى الحريات مشروطة ومحاصرة، رغم ضجيج وسائل التواصل الاجتماعي.
