
يقول الخطيب والفيلسوف اليوناني جورجياس من ليونتيوم (458 – 380 ق. م): "أولاً وقبل كل شيء لا يوجد شيء، وحتى لو وجد شيء بمصادفة ما، فلن يكون مفهوماً للإنسان، وإذا اجتمعت مصادفتان، ووجد شيء، ووجد إنسانٌ يفهمه، فسيصعب من دون شك شرحه للإنسان التالي"
هذا إفراط في الفلسفة، وإيغالٌ في الشك، وجموحٌ مبكّرٌ نحو الحداثة، لكنه يشبه أيامنا هذه، يشبهها إلى درجة مزعجة من الواقعية والتطابق. ويكاد يكون تفسيراً لمعظم ارتباكنا الوطني، واضطراب تفاهمنا، وضيق مساحة حوارنا. فمعظم ما نراه لا يحدث إلا في تناقلنا لصور تطبعها العين، وما يحدث حقاً لا نستطيع فهمه، وبعد كل ذلك، ننقله إلى الإنسان التالي محبوساً داخل ثوب ضيق من المفردات، بلغة لا تستطيع نقل جزء صغير مما نراه ومما نعتقده، بل تبدو للآخر بعد جملتين أنها تهديد أو إشهار سلاح في وجهه.
اللغة العاجزة أصلاً عن إيصال ما يفكر فيه الإنسان، رغم أنها الأداة الوحيدة المتاحة له لفعل ذلك، تصبح لغماً في بلد قلق مثل سورية، وفي فترة حسّاسة مثل هذه المرحلة الانتقالية. وتنزلق سريعاً إلى غير ما تريد، وتجرّ معها صداقات وعلاقات بين أفراد وجماعات، وأحياناً بعض الحيوات والدماء.
قبل فترة، روى لي شخص فيه كل المواصفات التي تدفع إلى أخذه بجدية، مثل عمره وشهاداته ومهنته، عن "حقيقة" ما جرى قبيل هروب بشار الأسد وسقوط نظامه، وأن الأميركان قبل أسبوعين قالوا له: "تعا لهون، دولتك صارت مصنفة فاشلة، احزم أغراضك وارحل.
شكّكت في الراوية من دون استفزاز، وقلت له: لا أظن القصة دقيقة، لأن للدولة الفاشلة تعريفاً قانونياً، وسورية وصلت إلى قبله بقليل، وفي حال فشل الدولة لا تجري الأمور دولياً بهذه الطريقة. وتجارب مثل الصومال وجنوب السودان لها مسار متسلسل معروف. سورية ولبنان اقتربا منه، لكنهما لم يصلا إلى تلك المرحلة.
قاطعني بغضب، وروى لي حوادث من تلك التي يتعرّض كل سوري لعشرين منها كل يوم، مثل: ذهبتُ لأجدّد شهادة السوق، حراق الشوفاج في الجزيرة 16 بمشروع دمر، عندي حساب في البنك العقاري، على الحاجز أنزلوني وقالوا، ابن عمتي حسّان.. وأفحمني: هذه مواصفات دولة ناجحة؟ آآ؟ آه؟ أخبرني هذا نجاح؟
أقررت صاغراً بصواب رأيه، لأنها بالفعل لم تكن دولة ناجحة، ولم تصبح بعد، ولأن لا طاقة لي على الدخول في نقاشٍ لا يفرّق بين القانوني والشخصي، ولأني أعرف رداء اللغة السورية الضيق، الذي لا يتّسع لفكرة بسيطة، من قبيل: انتقاد الإدارة، ولو كان بحدّة، لا يعني في أي حال حنيناً إلى بشار الأسد، وأن تعبير الرئيس الانتقالي توصيف قانوني سياسي، وليس موقفاً منه ومن المرحلة، ولا تقليلاً من شأن مهمّته التي يقوم بها لصالح بلاده.
من بين مثالب لا تُحصى للنظام السابق، ونستطيع تسويد ملايين الصفحات في تعدادها، واحدة منها تتعلق بتضييق اللغة، وهي جريمة بالغة التأثير، شديدة العمق، حصرت القضايا الوطنية في قاموسٍ ضيقٍ ضئيل، لا يتسع لمفردات إضافية، ومن ثم لا يتسع لأفكار إضافية.
بسبب الاعتياد ربما، وتحوّله إلى تقاليد وطنية، يجري التضييق على اللغة، ومحاولة حصرها بثنائية صغيرة، يكون النظام وإرثه أحد طرفيها، وذلك سيبقينا عالقين برداءة الرداء الضيق، وسيُبقي نقاشاتنا كلها في منطقة الشجارات، تلك التي تشعرك منذ الجملة الأولى أن السيوف ستُسلّ فيها بعد قليل.

Related News


