البيئة المنسيّة... الفاتورة المؤجّلة للإعمار
Arab
5 days ago
share

في لحظات الانتقال الكبرى، تميل الشعوب والدول إلى التفكير في القضايا التي تبدو أكثر إلحاحاً: الأمن، العمل، السكن، الغذاء، وإعادة تشغيل المؤسسات. هذه أولوياتٌ لا خلاف عليها. لكنها ليست وحدها من يُبقي الإنسان على قيد الحياة بكرامة. وإن فعلت فلن تدوم طويلاً، وستتراكم الاحتياجات الأخرى، ويتفاقم غيابها حتى تنفجر دفعة واحدة، وربما يحدُث ذلك في وجه جيلٍ تالٍ، وليس في وجه الجيل الذي يهملها.
في سورية، بعد ما يزيد على عقد من التدمير، تأتي البيئة في موقع متأخّر، بل شبه غائب، في النقاشات الرسمية والعامة حول الإعمار. ويصبح الحديث فيها نوعاً من الترف الفكري، أو كلاماً في غير أوانه، وكأننا نُعيد البناء على أرض منسية، أو على طبيعة ساكنة لا تُطالب بحقوقها.
لكن الأرض لا تصمت. هي تشهد، وتسجل، وتردّ. وليس أصعب من أن تبني بيتًا في أرض مريضة، أو أن تزرع في تربة منهكة، أو أن تنشئ مصنعًا في هواء مسموم، أو أن تترك أطفالك يكبرون في بيئة لم تعد تحتمل الحياة. سورية اليوم ليست في بداية أزمة بيئية، بل في عمقها. نحن نعيش أحد أسوأ مواسم الجفاف منذ أكثر من نصف قرن. الانهار والسدود في حدودها الخطرة، الآبار في معظم المناطق جافة أو تكاد، عين الفيجة، شريان المياه الرئيسي لدمشق، لا يعمل إلا بربع طاقته. الصيف بالكاد بدأ، والعائلات تتدافع يوميًا للحصول على صهريج ماء، أو تعبئة خزاناتها من الآبار التي أصبحت مورداً شبه وحيد، رغم ما تعانيه من تلوّث وتراجع في المخزون. الانتاج الزراعي في أدنى مستوياته منذ سنوات طويلة.

 الحكومة السورية الجديدة، رغم إشاراتها إلى قيم أخلاقية وإرادة سياسية جديدة، لم تُظهر وعياً كافياً بخطورة المسار البيئي الحالي

في المدن، تتكدس المركبات القديمة وآلاف السيارات الجديدة التي تُطلق سحبًا من الغازات السامّة، وتتزايد شكاوى الناس من ضيق التنفّس، والربو، وأمراض لا تنفصل عن نوعية الهواء الذي نتنفّسه. في القرى، ينسحب الفلاحون من أرضهم، لا لأنهم لا يحبون الزراعة، بل لأن الأرض عطشى، والآبار تجف، والمدخلات غالية، والعائد لا يكفي لسدّ رمق يوم. هذه المشاهد ليست تفاصيل عابرة. إنها علامات على أننا نخسر العلاقة المتوازنة مع بيئتنا، وأن ما نعتقد أنه "بناء" قد يكون في جوهره "إضعافا"، إن لم نُدرك شروط الحياة السليمة التي تضمن له الاستمرار.
ما يدعو إلى القلق أن الحكومة الجديدة، رغم إشاراتها إلى قيم أخلاقية وإرادة سياسية جديدة، لم تُظهر وعياً كافياً بخطورة المسار البيئي الحالي. في البيان الوزاري الذي أُعلن في نهاية مارس/ آذار الماضي، لم يرد ذكر البيئة إلا في كلمة واحدة عابرة، من دون تحديد رؤية أو التزامات واضحة. في الوقت نفسه، هناك سباق محموم لجذب الاستثمارات بأي ثمن، مع تجاهل شبه كامل للضوابط البيئية، وكأن المستثمر لا يأتي إلا إلى أرض مُستباحة، خالية من القوانين والاعتبارات.
لكن الواقع أن البيئة، حين تُهمل، تصبح كلفة اقتصادية بحد ذاتها. وهي كلفة تصاعدية، لأن تكاليف معالجة آثار المشاكل البيئية تعادل أضعاف كلفة تفاديها. في دول خرجت من نزاعات كلبنان والبوسنة وأفغانستان، تم التغاضي عن الاعتبارات البيئية في السنوات الأولى بعد الحرب، ثم دُفعت فواتير باهظة لاحقًا: تفاقمت أمراض مزمنة، تعفّنت الأنهار، انفجرت مكبّات نفايات، وانحدرت جودة الحياة إلى مستويات غير مسبوقة، رغم كل الاستثمارات. في المقابل، اختارت دول أخرى مثل رواندا أن تجعل من البيئة جزءًا من مشروعها الوطني بعد الإبادة الجماعية، فاستثمرت في إعادة التشجير، وتنظيم إدارة المياه، وربطت بين العدالة الاجتماعية والحفاظ على الموارد الطبيعية. اليوم تُعدّ رواندا من الدول الأفريقية الرائدة في مؤشرات الاستدامة، رغم أنها بدأت من مأساة لا تقل عن مأساتنا.
البيئة ليست عبئاً على الاقتصاد، بل دعامة له. حين نُهدر الماء، نُقوّض الزراعة. حين نلوّث الهواء، نرفع من كلفة العلاج. وحين نترك النفايات تتكدّس، نفتح أبوابًا للعدوى والهلع. وحتى الطاقة الشمسية، التي ظنّ كثيرون أنها الحل، بدأت تُظهر وجهًا آخر. انتشار ألواح الطاقة ومئات آلاف البطاريات الليثيوم في الأحياء والمزارع من دون تنظيم ولا خطة للتدوير، سيخلق قريبًا أزمة نفايات إلكترونية خطيرة. وبدل أن تكون الطاقة المتجددة نعمة، قد تتحوّل إلى مصدر جديد للتلوث ما لم نتدارك الأمر بخطّة شاملة، تشجّع على الحلول الجماعية والمنظمة، لا فقط الفردية والعشوائية. 
ونسأل هنا لما لا نبحث عن حلول مربحة اقتصاديّاً وصديقة للبيئة في آن واحد؟ مزارع الطاقة الشمسية قد توفر فرصا استثمارية جيدة وإمكانات للشراكات بين القطاع العام والخاص، وتضمن حصر بطاريات تخزين الطاقة في بقع محدودة يمكن مراقبتها والتحكم في تدويرها والتخلص منها في المستقبل. لما لا ننظر إلى تدوير النفايات فرصةً استثمارية ونقوم بتشجيعها؟ بالطبع، قد لا ينظر المستثمرون إلى مشاريع كهذه، مشاريعَ رابحةً في البداية. وقد يلزمهم بعض التحفيز كالتسهيلات الائتمانية وإعداد دراسات الجدوى وتبسيط إجراءات الترخيص. ولكن اقتصاد البيئة اليوم لا يقتصر على درء المفاسد بقدر ما يتطلب إعلاء المصلحة والموازنة بينهما. 
بالطبع، لا يمكن تحميل الدولة وحدها المسؤولية. نحن السوريين، بوصفنا مجتمعاً، نشارك في المشكلة، ويجب أن نكون جزءاً من الحل. عاداتنا في استهلاك الماء لا تراعي الندرة. طريقتنا في التخلص من النفايات تفتقر للوعي. تعاملنا مع المساحات العامة، من حدائق وشوارع، يكشف فقدان شعورنا بالملكية الجماعية. هناك أزمة ثقافية لا تقلّ عن الأزمة المؤسّسية. حماية البيئة تبدأ من البيت، من المدرسة، من دور العبادة، من الإعلام. تبدأ حين نُربّي أبناءنا على أن رمي النفايات في الأرض وفي النهر ليس فقط خطأ بيئيًا، بل خيانة للأمانة التي أُلقِيَت على عاتق الإنسان حين استُخلف في الأرض. حين نُفهمهم أن الأرض التي نمشي عليها ليست فقط ملكًا لنا، بل وديعة سنُحاسب على كيفيّة صونها.
ليست المسؤولية تجاه البيئة مجرّد خيار، بل واجب أخلاقي عميق. هي امتداد لمفهوم الاستخلاف، الذي يحمّل الإنسان أمانة العناية بالأرض، ويدعوه إلى الاعتدال في التصرّف، والحرص على التوازن، وتجنّب الإفساد. هذه ليست مفاهيم غريبة عنا، بل في صميم تراثنا ومعتقداتنا. لكن الخطاب الأخلاقي يجب أن يُترجم إلى أفعال. المطلوب اليوم هو مبادرات ملموسة: تنظيم قطاع الطاقة المتجددة بما يضمن السلامة والاستدامة، تفعيل أجهزة الرقابة البيئية ومنحها صلاحيات حقيقية، إدماج المعايير البيئية في قوانين الاستثمار وتراخيص البناء، دعم المبادرات المحلية التي تسعى لإعادة التشجير، وتنقية المياه، وتوعية الناس.

حين نجعل من البيئة حليفاً لا عبئاً، نربح أكثر من الهواء والماء والتربة. نربح الصحة، والاستقرار، والاحترام الذاتي. نربح وطنًا قابلًا للحياة، لا فقط للبقاء

نحن بحاجة كذلك لإعادة الاعتبار للمخططات الإقليمية، وتحديد الاستخدامات المثلى للأراضي، وتفعيل دور البلديات في الحفاظ على الفضاءات العامة. من دون تخطيط علمي، تُصبح العشوائية هي القاعدة، ويُصبح التدهور حتميّاً. كما لا بد من دعم الجامعات ومراكز الأبحاث في دراسة أثر التغيرات المناخية المحلية، ورصد الموارد المائية، واقتراح حلول مبنية على المعرفة، لا على ردّات الفعل، فالتحدّيات التي نواجهها معقّدة، ولا يمكن مواجهتها بالشعارات فقط. ولا بحلول تجريبية أو ارتجالية. 
في النهاية، لا بد من مراجعة الرواية التي نرويها لأنفسنا عن الإعمار. فالإعمار ليس فقط صبّ إسمنت، وبناء مدارس، وتمديد شبكات كهرباء. الإعمار هو أيضاً إعادة بناء العلاقة بين الإنسان ومحيطه، والاعتراف بأن ما دمّرناه في الأرض لا يقلّ خطورة عمّا دمّرناه في الحجر. لا تكتمل العدالة ما لم تشمل أيضاً العدالة البيئية.
حين نجعل من البيئة حليفاً لا عبئاً، نربح أكثر من الهواء والماء والتربة. نربح الصحة، والاستقرار، والاحترام الذاتي. نربح وطنًا قابلًا للحياة، لا فقط للبقاء. وطناً نستحق أن نعيش فيه، ويستحقّ هو أن نحميه. وطناً إذا سقيناه اليوم بالرعاية، ردّ لنا الجميل لأجيال قادمة لم تولد بعد، لكنها ستسكن ما نتركه خلفنا، وتشهد على ما فعلناه بأرضنا حين أُتيحت لنا فرصة أن نبدأ من جديد.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows