
في شبابي الأول، ذهبتُ إلى باريسَ، لا لأتعلم كيف أعيش الحرية أو أتذوّق الحب، بل لأتعلم كيف تُصنعُ الأفلام، لكنّي، وقبل أن تمضي الشهور، أدركتُ أني لن أفعل. لم تخذلني السينما، بل الحياةُ نفسُها، بمنطقية أسبابِها وبتناقضاتِها أيضاً. حيث كان عام 2000 عامَ تردد. إذ تلكأت فرنسا أيضاً في خيارها بين الفرنكِ واليورو، كأنّ اعتماد العملةَ الجديدةَ هدد شيئاً في روحِها: كآبتَها المُتوارَثة، بحثَها الأبديّ عن الذات، عادتَها المقدّسةَ في ارتياد المقاهي. في تلك الأيامِ، لم يكنْ لباريس مزاج بغواية أحد، إذ انشغلت برتقِ هويّتِها قبلَ القفزةِ إلى الألفيةِ الجديدة. وأنا مثلها، كنتُ أترنّحُ على هوامش خياراتي، أحملُ في جيبي بطاقةَ طالب، وفي قلبي سؤالاً مكرّراً: هل سأجدُ نفسي مرّةً؟
ربّما بدافعِ العناد، أو اليأس، لطالما صرّحت أنّي لا أحبَ باريس، ولا أعتقد أنها أحبتني. لكنني عشقت تفاصيلَ منها، شارعاً يجف بعد مطرٍ خفيف، وجهاً متأنقاً في متروِ الخطِّ الرابعِ، أشعّةَ شمسٍ تتسلّلُ بين أعمدةِ السوربون، لتنير الساحات الكسولة فوق رؤوس الطلبة. ومع هذا كله، لم تكنْ باريسُ هي من أسرتني، بل سينما "Le Champo".
في زاوية حميمة حيث يلتقي شارع ديغول بشارع شامبليون، تقبع "لو شامبو" كجوهرة مخفية في قلب الحي اللاتيني. منذ عام 1938، وهي تحرس أحلام المدينة على بُعد خطواتٍ من أسوار السوربون العتيقة، كأنها امتداد سرّي لقاعات الجامعة العريقة، حيث تُدرّس الحياة والنظريات بالطبع.
هنا، في هذا المعبد الصغير لسينما الفن والتجريب، تجوّلت أرواح غودار وتروفو، وحلم طلاب الفلسفة والأدب بعوالم أخرى. إذ كانت "لو شامبو" أكثر من مجرّد سينما؛ حضرت كمختبر للأحلام، ومرآة تعكس قلق جيلٍ من المثقفين الذين وجدوا في ظلامها نوراً لا يبهت. فتلك العلبةُ الصغيرةُ التي تشبهُ صندوقَ موسيقى متوّجاً في واحدةٍ من زوايا العالم، لم تكن سوى قاعة قزمية ليس لأكثرَ من 50 مقعداً، ترفضُ أن تنحني لقوانينِ السوقِ أو أن تتنازلَ لإملاءاتِ التوزيعِ الجائر. تقفُ هناكَ مثل جيبٍ سرّي في معطف، حنون وشخصي، يقهر البرد وقسوة المدينة. ففي تلك القاعة، كنت أختبئ من باريس، ومن اتصالات أبي المبلّلة بالندم والدموع، ومن القرار الذي يعصف في داخلي: سأعود.
على بوابة الألفية الثانية، لم أكنْ وحدي على مفترقِ الطرقِ. "لو شامبو" نفسُها كانتْ تتأرجح على الحافةِ معي. أراد مالكو السينما تحويلَها إلى مشروعٍ تجاريٍّ. لكنّ مثقفي باريس هبّوا للدفاعِ عن ذاكرة المدينة برفقة تلك السينما. أُنقذتْ "لو شامبو" وأنا عدتُ إلى دمشقَ. عدتُ وأنا أحملُ يقيناً بأنّ السينما تُعاشُ، لا تُشاهد. حيث "لو شامبو" لم تكن استثناءً باريسياً، بل مرآةً تعكس مأساة كل مدينة تراقب اندثار سينماها، قاعةً تلو الأخرى، كما تتسرّب من الحالم ذكرياته. فقلقُها من الزوال يُحاكي قلقَنا على سينماتنا، على "الكندي" التي احتضنت الضحكات المخلوطة بفوران أجساد المراهقين، و"السفراء" حيث لاذ الحالمون بوجه نجماتهن هرباً من لهيب آب، و"الزهراء" و"الحمرا" اللتين احتفظتا بأول افتتان بأبطال يشبهونهم. لم تكن تلك القاعات ملاذاً للأحلام والضحك والحرية فقط، بل حياةً بديلة نسجناها في الظلام حين احتجنا للنجاة من البلادة.
اليوم، في عامِ 2025، بعدَ أن انتهتِ الحربُ، أو تظاهرتْ بأنّها انتهتْ، لا تحتاجُ الشام إلى قاعاتٍ جديدةٍ بشاشاتٍ أكبرَ ومقاعدَ أوفرَ راحةً فقط، بل نحتاج نحن أيضاً، أن نسترجعَ أرواحَ تلك الصالاتِ التي كان لنا فيها دائماً حكاية، أو مقعدٌ مخمليٌّ أحمر في الصف الثالث.

Related News
